«أم جرس» كواليس ما بعد انتهاء التداول.. وبداية الاتصال بالمحيط الإقليمي
هناك في تشاد وبعيداً عن الأضواء كسرت أصوات الأجراس السكون المفروض على التداول حول قضايا السلام والاستقرار والتعايش السلمي بين القبائل الحدودية في دولتي السودان وتشاد، حيث تدافع المئات من أبناء وبنات السودان عبر طرق مختلفة نحو منطقة «أم جرس» التشادية، للمشاركة في ملتقى «أم جرس» الثاني والذي رعاه الرئيس التشادي «إدريس دبي»، ووسع قاعدة المشاركة فيه بعد نجاح الملتقى الأول والذي خصص لأبناء الزغاوة في البلدين. ولعل الإشارات الأقوى هي التي أرسلها رئيس الجمهورية المشير «عمر البشير» في كلمته التي ألقاها في ختام الملتقى الثاني، حيث أكد على أن باب السلام مفتوح للراغبين من الحركات المسلحة عبر وثيقة «الدوحة» لسلام دارفور، وبذلك يكون الرئيس قد أغلق الباب أمام المحاولات التي تسعى للإعلاء من توجه الخرطوم نحو تغيير منبر التفاوض من قطر إلى مكان آخر، كما أن حديث نائب رئيس الجمهورية الدكتور «حسبو محمد عبد الرحمن» وتأكيده أن «أم جرس» واضحة ولا توجد فيها أجندات خفية، إلى جانب الصلاحيات القانونية الواسعة التي خولها وزير العدل مولانا «محمد بشارة دوسة» إلى قادة الإدارة الأهلية ومن بينها منح رجل الإدارة الأهلية سلطات وصلاحيات نيابة بأكملها، وذلك يكشف عن توجهات جديدة يمضي تنفيذها في دارفور خلال الفترة المقبلة.
تنظيم وتشريف
مساء أمس الأول وجهت الدعوة إلى مجموعة محدودة من الصحفيين لحضور اللقاء التفاكري حول مخرجات ملتقى «أم جرس» والذي نظمته الآلية بتشريف نائب رئيس الجمهورية الدكتور «حسبو محمد عبد الرحمن»، ووزير العدل، رئيس الآلية العليا للملتقى مولانا «محمد بشارة دوسة». وقد تحدث في اللقاء إلى جانب نائب رئيس الجمهورية، ووزير العدل، «محمد عيسى عليُّو» ممثلاً للوفود المشاركة في الملتقى.
تشاور رئاسي
الدكتور «حسبو محمد عبد الرحمن» نائب رئيس الجمهورية ابتدر كلمته مدافعاً عن الملتقى، وقال إنه لم يتم من هوى وإنما نتيجة للتشاور السابق بين الرئيسين «البشير» و»إدريس دبي»، والذي أكدا فيه أن البلدين يرغبان في طي صفحة الخلافات والخصومة واستغلال توفر الإرادة بينهما، كعامل ايجابي لتحقيق السلام والاستقرار في دارفور. وأضاف (الآن أؤكد لكم أن رئاسة الجمهورية كلها تقف مع أهل دارفور، ونقول ليكم البيان بالعمل).
رسائل «موسفيني»
نائب رئيس الجمهورية الدكتور «حسبو» بدا منشرحاً ومرتاحاً في كلمته التي ألقاها، حيث استرسل في شرح الأيام التي قضاها في دارفور في الأيام الأخيرة والنتائج التي تحققت فيها، وربط ذلك بمخرجات «أم جرس»، ولم يخلُ حديثه من القفشات التي أطلقها للحاضرين، حيث خاطبهم قائلاً: (حمد لله على سلامة وصولكم.. كنا قايلين الرئيس «دبي» ما حيفككم من الاعتقال.. أنا قلت ليهو ما يفككم لو ما اتفقتو)، فضحك الحاضرون وانتقل نائب الرئيس بكلماته من تشاد إلى يوغندا، حيث كشف عن تفاصيل لقاء جمعه مع الرئيس اليوغندي «يوري موسفيني» خلال الأيام الماضية، وقال: (جئت أمس من الرئيس «موسفيني»). وتحدث للحضور بلغة بسيطة قائلا: (دا الزول الماسك الحركات يا جماعة.. وقلت ليه إن أسوأ نقطة أنك ماسك الحركات تجمع لها السلاح والمال)، وزاد بالقول: (طالبته أن يرسل لنا حركات دارفور إلى الدوحة أو إلى الوسيط «إدريس دبي».. «موسفيني» وافق وقال إنه سيدعم السلام ويدفع بقيادات منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق إلى التفاوض في «أديس أبابا»، وبناس دارفور إلى «الدوحة»). وذهب نائب الرئيس إلى التأكيد بأن الرئيس اليوغندي قد قال ذلك بشكل واضح وصريح، إلى جانب حديثه –موسفيني- عن تجربة السودان وتشاد في القوات المشتركة. وأكد «حسبو» أنه شرح لموسفيني بأن العلاقة مع تشاد لا تقف عند حشد القوات المشتركة، وإنما تتعداها إلى جوانب اقتصادية. وأضاف (قلت ليه أخطو خطوة وخلينا نشتغل مع بعض).
تحايا الرئيس
حديث نائب الرئيس تطرق لقضايا متعددة ومن بينها أنه سجل إشادة بعمل القوات المشتركة بين السودان وتشاد. وقال إنها فاعلة أكثر من قوات الأمم المتحدة في دارفور. ونقل في ختام حديثه تحيات رئيس الجمهورية المشير «البشير» إلى أهل دارفور والحاضرين للملتقى. وأضاف «حسبو» قائلاً: (الرئيس بيقول ليكم إنو موافق على اتجاهاتكم دي ويريد أن يزوركم، ولكنه لا يريد أن يزوركم وأنتم متنازعين). ودعا أهل دارفور إلى العمل لأجل حل مشاكلهم الداخلية، وأضاف (بعدها أسألونا من التنمية والخدمات والبني التحتية). وقال إن المشاريع المخصصة لدارفور من التنمية حتى الآن لم تنفذ وأن الأموال موجودة ومجمدة، لأن المقاولين يرفضون الذهاب للعمل في المنطقة ويقولون إنها غير آمنة، وأن المشاريع مهددة.
رسائل للحركات
في إطار الحديث عن مخرجات ملتقى «أم جرس» بعث نائب الرئيس برسائل مباشرة إلى الحركات المسلحة، حيث طالبهم بالانضمام إلى الحوار الوطني الذي دعا له رئيس الجمهورية. وأضاف (أدعو حملة السلاح وأقول لهم إذا أردتم الانضمام إلى الحوار السياسي الذي سيبدأ (الأحد) القادم سنوفر لكم الضمانات لتحضروا إلى «الخرطوم» هنا.. وإذا أردتم الدوحة فالطريق إليها مفتوح). وقال: إن نداء «أم جرس» فيه أجراس السلام. وطالب بإعلاء أصوات السلام وثقافته بين الناس.
نشأة الحرب
وقال نائب الرئيس إن حرب دارفور لم تنشأ بإجماع إنسان المنطقة وإنما نتيجة لمزاجات أفراد، مما أدى إلى تقسم الحركات وقيام عشرات الحركات المسلحة دون أن يكون لها مصلحة تعود إلى أهل المنطقة. وأضاف (نحن في الحكومة لم نتخذ قرار الحرب وإنما اتخذنا قرار السلام، ونريد أن نفرض إرادة السلام لإبطال شكوك المستفيدين من الحرب)، وأضاف (لذلك نريد للجرس الواحد أن يتحول إلى أجراس كثيرة لأجل السلام)، مؤكداً أن السلام مسؤولية الجميع، وأن رئاسة الجمهورية مسؤوليتها في ذلك أن تتخذ قراراتٍ وتفرض توجيهاتٍ وتسن تشريعاتٍ وتعليماتٍ في قضية السلام، مطالباً الإدارة الأهلية بأن تلعب دوراً فاعلاً في نشر توصيات «أم جرس» على أرض الواقع. وأضاف (لازم كل شخص يعمل على تنوير الناس فيما يليه).
توجيهات رئاسية
وكانت أولى التوجيهات التي تدعم ذلك بأن تذهب كل الجهات المختصة إلى دارفور حسبما وجه نائب الرئيس، وحدد من بين ذلك قادة مجلس الشورى، والتنفيذيين والدستوريين من أبناء دارفور بالإسراع في النزول إلى المحليات لمخاطبة المواطنين، وتبشيرهم بمستوى التوافق الذي وصل إليه أهل دارفور في ملتقى «أم جرس». وأضاف (نريد إنزال ذلك من العواصم إلى الأرض)، مؤكداً عدم وجود أسباب للنزاع القبلي الذي يموت فيه الأبرياء في دارفور، مبيناً أن الأطراف المتنازعة تجمعها علاقات مصاهرة ونسب. ودعا لإعمال صوت العقل وعدم السماح لإبليس ليخرب، وقال إن منح الإدارة الأهلية سلطات بالقانون لا يكفي مالم يتم منح الناظر ومستويات الإدارة الأهلية الأخرى مخصصات مالية. ووجه نائب الرئيس بمنحهم مخصصات بالقانون وأن لا يعطوا عطية مزين. وأضاف (لابد من إكرامهم ومنحهم مخصصات بشرط أن لا تتدخل الحكومة في اختياراتهم، وأن يختاروا عبر أهلهم وبعدها يبقى الحساب ولد). وطالب قادة الإدارة الأهلية بالتعامل مع السلطات التي منحها لهم مولانا «دوسة»، بعدل وعدم استخدامها بتعسف أو تصفية للحسابات، وضرورة منع الانشقاقات.
تكوين آليات
وزير العدل رئيس الآلية العليا لملتقى «أم جرس» مولانا «محمد بشارة دوسة»، قال إن أهل دارفور أمام مسؤولية كبيرة بعد أن تواثقوا واتفقوا على إنهاء النزاع والصدام والصراع القبلي، وضرورة المحافظة على السلام والأمن والاستقرار في دارفور. وقال إن المشاركين في الملتقى عليهم وضع خطة محكمة لتنوير المواطنين في دارفور لإنزال المقررات على أرض الواقع، وذلك استباقاً لتكوين الآليات التي وعد بها رئيس الجمهورية. وأكد على توجه الحكومة نحو تطبيق المساءلة والمحاكمة والمحاسبة على كل من يتعدى على الأمن والاستقرار في دارفور. وقال إن الملتقى طالب بمنح سلطات أوسع للقوات المشتركة السودانية التشادية، حتى تكون أكثر فاعلية في حماية الحدود بين البلدين.
تخويل سلطات
وزير العدل كذلك أعلن عن تنازله أو تخويله لسلطاته في بعض البنود القانونية ومنحها إلى قادة الإدارة الأهلية في دارفور، وذلك في إطار السلطات المكفولة له لإنزال هيبة الدولة وتطبيق القانون على الأرض. وقال إن أي إداري شعبي وأي زعيم قبيلة سيمنح سلطات (نيابة) كاملة يستخدمها بالقيد الزمني والمكاني، ويصبح مسئولاً عن منع الجريمة في إطار دائرة الاختصاص التابعة له، إلى جانب تفويضهم بممارسة السلطات القضائية الواردة في المادة (15) إلى جانب تفويضهم سلطات التحري الواردة في المادة (52) من القانون الجنائي. وأوضح أن ذلك يستخدم في حالات معينة، وأضاف (المواد (113) وما بعدها تتحدث عن سلطة الأوامر والتدابير الوقائية لمنع وقوع الجريمة، ويدخل فيها الحبس والمراقبة واستكتاب التعهدات). وقال إن تلك السلطات أيضاً سيقوم بتفويضها إلى الإدارة الأهلية. وزاد إن ذلك بهدف بداية المرحلة المقبلة بشكل جديد يتوحد فيه الناس ضد الجريمة. وقال إن المجرم والنهاب والمتمرد لا قبيلة له. وأضاف (هناك من يريد أن يتفه مخرجات «أم جرس» لأنه فقط لم يذهب إليها)، ودعا لمحاصرة تلك الأصوات حتى لا تفسد أجواء السلام.
الاتصال بالحركات
وطالب وزير العدل القبائل بالالتزام بما جاء في توصيات «أم جرس»، والشروع في الاتصال بأبنائهم في الحركات المسلحة لإقناعهم بترك العمل المسلح والالتحاق بالسلام. وكشف عن اقتراب تشكيل لجنة للاتصال بالحركات المسلحة لإقناعهم بالانضمام إلى السلام، وقال إن اللجنة سيتم تشكيلها لاحقاً. وقال «دوسة» إن السياسيين في الحركات المسلحة قد شاركوا في ملتقى «أم جرس» وأن الرئيس التشادي «إدريس دبي» بدأ اتصالات شخصية بالحركات المسلحة للانضمام إلى السلام. وقال إن الذين شاركوا من الحركات في الملتقى لم يظهروا في جلسات الملتقى ولكنهم كانوا موجودين.
«الدوحة» على الخط
وقال «دوسة» إن الجهود الحالية في «أم جرس» غير منعزلة عن اتفاق «الدوحة»، وأضاف (هذا دعم لدور قطر ولمجهوداتها في سلام دارفور)، وزاد بالقول: (هناك من يفتكر أن هذا منبر جديد وأن الموضوع بلا قيمة بسبب عدم مشاركة الحركات المسلحة في «أم جرس»)، وأكد أن الدعوة لم تقدم من الأساس للحركات المسلحة لتحضر إلى «أم جرس»، وقال إن الهدف من الملتقى هو توحيد أهل دارفور، وذكر أن اتفاق «الدوحة» هو الأساس في سلام دارفور، وأن المجهودات الأخرى تمثل دعماً له.
اعترافات وحياد
(المؤتمر بدأ بالاعتراف بأن المجتمع فيه قبلية وجهوية وحرب وصراعات، وقلنا إننا نريد أن نحولها لمحاور نتعامل معها لنبذ المهددات على المجتمع).. هذا ما قاله أيضاً وزير العدل إلى جانب حديثه عن ضرورة التزام الموقعين على اتفاقيات السلام في دارفور على التوجه نحو المساعدة في استتباب الأمن بدلاً من الاحتفاظ بقواتهم بموجب اتفاقيات، وأن تقوم تلك القوات بخروقات ومخالفات على الأرض، كما طالب قادة الإدارة الأهلية وزعمائها بضرورة الحياد وعدم الانحياز لصالح أي حزب أو مجموعة حتى ينال احترام الجميع. وقد وجدت هذه النقطة قبولاً من الحاضرين وصفقوا لها كثيراً.
تشريعات ومصالحات
يبدو أن ملتقى «أم جرس» أحدث حراكاً كبيراً في مجالات متعددة، فقد أعلن وزير العدل أيضاً عن توجه وزارته نحو وضع تشريعات جديدة وقانون نموذجي، لإنزاله إلى كل ولايات دارفور للاتفاق على جوانب الحقوق والواجبات، على أن يحفظ القانون صلاحيات للإدارة الأهلية، إلى جانب الاتجاه نحو سن قانون آخر للمصالحات القبلية لضمان عدم تجدد الصراعات القبلية ووقف إزهاق الأرواح. وقال إن القانون الجديد سيجعل ما خرجت به المصالحات كأنه حكم صادر عن محكمة واجب التنفيذ. وقال إن واجب الدولة في ذلك هو أن تبسط هيبة الدولة بالقانون، وأن تردع المتفلتين بقوة القانون والتنفيذ الجبري. وقال إن تلك القوانين ستجاز في مجلس الولايات والبرلمان.
شكراً للمعارضة
وقال «دوسة» إن العلاقة بين السودان وتشاد تمضي نحو التكامل، وأن البلدين عازمان على تجاوز احتماء المجرمين في كل بلد بالبلد الآخر، وقال إن ذلك سيحول التعامل إلى مجالات الثقافة والاقتصاد والمجالات الاجتماعية والتفرغ للنماء والسلام وصولاً إلى مرحلة التكامل. وشكر قادة الأحزاب السياسية المعارضة الذين شاركوا في الملتقى ومن بينهم الدكتور «الترابي» وممثلا السيدين «الصادق المهدي» و»محمد عثمان الميرغني».