تقارير

الملايين تشيع «محجوب شريف» وتردد: وداعاً يا أبو «مريم» و«مي»

الشمس التي انتصفت نهار أمس(الأربعاء) وألهبت الأجساد بالعرق، لم تكن أكثر حرارة وسخونة ووجعاً من الدموع التي دلقها السودانيون، في أم درمان بمدينة الثورة الحارة الواحد والعشرين، بعد أن نعى الناعي رحيل شاعر الشعب «محجوب شريف» والذي وافته المنية أمس بمستشفى (تقى) التخصصي.
آخر وصايا الراحل قبل وفاته
أفراد مجموعة عقد الجلاد الغنائية «طارق جويلي» و»شريف شرحبيل» و»شمت محمد نور» وبقية أعضاء العقد، ظلوا ملازمين الراحل طوال فترة مكوثه بالمستشفى. وفي صيوان العزاء جمعني حديث قصير بنجم عقد الجلاد الغنائية «شمت محمد نور» الذي تحدث والحزن يكسو ملامح وجهه عن الراحل الذي قال إنه كان يداعب كل من حوله حتى قبل رحيله بنصف ساعة، وأوصى ابنته «مي» بأن يتم دفنه في مقابر «أحمد شرفي»، وأن يصلي على جثمانه الشيخ «الإدريسي». «محجوب شريف» كان يقول وهو على فراش المرض بالمستشفى، إنه لا محالة سوف يموت على فراشه.. لأنه لن يذهب إلى البحر حتى يموت غريقاً.. كما أنه لن يموت بالحريق إلا إذا أصاب أدوات المستشفى وغرفتها. وظل يغالب أصعب لحظات حياته ولا تفارقه الابتسامة.
حزن ووجوم في سرادق العزاء
الأطباء المعالجون تحدثوا عنه بشئ من الاستغراب حسبما حدثنا عضو مجموعة عقد الجلاد «نصر الدين»، حيث ذكر (الأطباء) أن المريض الذي يرافقونه يعد (شخصاً نادراً جداً)، كونه كان ثابت الجأش ولم يتأثر بتأخر حالته الصحية.
أما في سرادق العزاء فقد كان الحزن بادياً على كل الوجوه، وبكاء الرجال يقطع نياط القلوب.. بكاء مر لا يقطعه سوى أصوات الرافعين أكفهم بالدعاء إلى المولى عز وجل، بأن يتقبله وهم ينطقون بكلمة السودانيين الشهيرة (الفاتحة)، وما هي إلا هنيهات ثم ينطلق العويل مرة أخرى، ورغم أن الطقس كان حاراً للغاية إلا أن المعزين تسمروا لساعات طوال، وهم يكفكفون بطرف دموعهم الحارة التي انزلقت على خدودهم بيد وبالأخرى يمسحون العرق الذي يهطل بغزارة على وجوههم. وكانت ابنته «مي» قبل وصول جموع المعزين في حالة ذهول وصدمة، وتجمدت الدموع في مآقيها وكانت تذرع المكان جيئة وذهاباً كأنها لا تصدق رحيل ملهمها.
كان المهندس «محمد مختار الخطيب» سكرتير الحزب الشيوعي، أول الواصلين من السياسيين برفقته أعضاء الحزب ثم ظهر الشاعر «محمد طه القدال» وهو يعتمر صديريته وكثير من الحزن المقيم على ملامحه والذي اشتد عليه أمس برحيل شاعر الشعب، وعندما التقى بالشاعر «هاشم صديق» احتضن الاثنان بعضهما البعض وانخرطوا في بكاء طويل شد أسماع المعزين الذين توافدوا بعد ذلك تباعاً. وفي لحظة وصول جثمان الراحل تصاعدت أصوات النحيب العالية حتى اهتزت منطقة الثورة بأكملها.
تشيع مهيب
شيعت جموع الشعب السوداني بمختلف قطاعاتها في موكب مهيب شاعر الشعب وسط لافتات وشعارات، تبرز مراحل من حياة الشاعر الذي قضى جزءاً كبيراً في المنافي والسجون، ولم يبدل قناعاته يوماً ولا كسرته تلك الظروف وقسوتها. وكانت سماء أم درمان تضج بالهتاف الشهير المقتبس من قصيدته المعروفة يا الوالدة يا مريم (ماك الوليد العاق.. لاخنت لاسراق) ولافتات قماش عريضة مكتوب عليها مقتطفات من أغنياته (قدرك عالي قدرك يا سامي المقام).
وسار موكب تشييع شاعر الشعب لما يزيد عن الساعتين من الزمان، بداية من منزله بالثورة (21) وحتى مقابر «أحمد شرفي» التي ووري فيها جثمانه الطاهر.
آخر قصائد الراحل:
آخر ثلاث قصائد كتبها «محجوب شريف» لزوجته السيدة الفضلى «أميرة الجزولي»، ولحفيده «حميد قاسم أمين» وللشعب السوداني قبل رحيله بساعات بمستشفى (تقى) بأم درمان
صفقوا وغنوا
دقوا الترمبيتة
حبتني حبيتا.. ربتني ربيتا
ما بطيق النوم بره من بيتا
إلا في منفاي صورة ختيتا
إن شاء الله ما يحصل
ينقطع خيتا
حليبا.. شاييها.. كسرتا وزيتا
بيننا ندية همنا السترة
ما استفزتني.. ما استفزيتا
كم تشاجرنا
مين سمع صوتنا؟
ولا غلط مرة إيدي مديتا
زعلت رضتني
برضو رضيتا
كبرنا تاتني
ياما تاتيتا
والبنات كبرن
اصبحن نسوة
جابن الكسوة
نورن بيتنا
الدهب زينا بينا مابسوى
سمعة ماسمعة
في ضحى الجمعة
ورقن خدرة
فرن الكسرة
فرحن ضيفنا
شاهي بالله ولا صينية
تفتح النية
هي ماهية ولاتدبيرا
وسع القدرة
دنيا..يادنيا
ألف شكراً ليك
هي لاقتني
واني لاقيتا
حبتني..حبيتا
ربتني..ربيتا
ثم جمع أنفاسه وكتب للشعب السوداني
ﻣِﻦْ ﻭﺟْﺪﺍﻧﻲ
ﺻَﺤَّﺔ ﻭﻋَﺎﻓﻴﺔ
ﻟﻜﻞ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ
ﺍﻟﻘَﺎﺻِﻲ ﻫﻨﺎﻙ ﻭﺍﻟﺪﺍﻧﻲ
ﺷُﻜﺮﺍً ﻟﻸ‌ﺭﺽ ﺍﻟﺠﺎﺑﺘﻨﻲ
ﻭﺍﻟﺪﺭﺏ ﺍﻟﻠﻴﻜﻢ ﻭﺩَّﺍﻧﻲ
ﻳﺎ ﻃﺎﺭﻑ ﻭﺗﺎﻟﺪ
ﻳﺎ ﻭﺍﻟﺪ
ﺍﻟﻨﻴﻞ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪ ﺷﺮَّﻓﻨﻲ
ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﻧﺴﻠﻚ ﻋﺪَّﺍﻧﻲ
ﺇﻧﺖَ ﺍﻷ‌ﻭﻝ ﻭﻣﺎ ﺑﺘﺤﻮَّﻝ
ﻭﺗَﺐ ﻣﺎ ﻋﻨﺪﻱ ﻛﻼ‌ﻡ ﺑﺘﺄﻭَّﻝ
ﺃﻧﺖ ﺍﻷ‌ﻭﻝ
ﻭﻛﻞ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ
ﺑﻌﺪﻙ ﺗﺎﻧﻲ
ﻳﺎ ﻣﺘﻌﺪِّﺩ ﻭﻣﺎ ﻣﺘﺸﺪِّﺩ
ﻣﺎ ﻣﺘﺮﺩِّﺩ … ﻣﺎ ﻣﺘﺮﺩِّﺩ
ﻣﻠﺊ ﺟﻔﻮﻧﻲ ﺑَﻨﻮﻡ ﻣُﺘﺄﻛِّﺪ
ﺑﻞ ﻣﺘﺠﺪِّﺩ .. ﺗﻨﻬﺾ ﺗﺎﻧﻲ
ﻭﻟﻤﺎ ﺗﻌﺎﻧﻲ .. ﺑَﻌﺎﻧﻲ ﻭأﻋﺎﻧﻲ
ﻭﻗﻠﺒﻲ ﻭﻋَﺎﻧﻲ ﺃﺣﺒﻚ ﺃﻛﺘﺮ
ﻭﻣﺎ ﻛﻔَّﺮﺕَ .. ﻭﻻ‌ ﻧﻔَّﺮﺕَ
ﻭﻟﻢ ﺗﺴﺘﻌﺼﻰ ﻋﻠﻴﻚَ ﻣَﻌَﺎﻧﻲ
ﻋﻠﻤﺘﻮﻧﺎ ﻧﺴِـﺪ ﺍﻟﻔﺮﻗﺔ
ﻭﺇﺗﻘﺎﺳﻤﻨﺎ ﺭﺣﻴﻖ ﺍﻟﻄَـﺮَﻗَـﺔ
ﻭﻛﻢ ﺷﻠﻨﺎﻫﻮ ﺛﺒﺎﺗﻚ ﺩَﺭَﻗﺔ
ﺑﻜﻞ ﺍﻟﺒَـﻲْ ﻭﻋَـﻠَـﻰْ ﻭﺣﻴﺎﺗﻚ
ﺃﺗﺤﺪَّﺍﻩ ﻛﻤﺎ ﺃﺗﺤﺪَّﺍﻧﻲ.
ثم كتب لحفيده «حميد قاسم أمين»
ﺃﻧﺎ ﻟﻴﻚ ﻣﺸﺘﺎﻕ ﻣﺸﺘﺎﻕ ﻣﺸﺘﺎﻕْ
ﺗﻜﺒﺮ ﺳَﺒَّــﺎﻕْ
ﺑﺎﻹ‌ﻳﺪ ﻭﺍﻟﺴﺎﻕْ
ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻭﺍﻟﺨﻴﺮ
ﻣﻦ ﺳَــﻬْﻞِ ﻓﺴﻴﺢ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺭﻗﺮﺍﻕْ
ﺗﺮﺯﻱ ﻭﺳﻮَّﺍﻕ ﺗﻌﻤﻞ ﺯِﻗْـﺰﺍﻕْ
ﻣﻦ ﻭﺭﺩِ ﺟﻤﻴﻞ ﺗَــﻬﺪﻱ ﺍﻟﻌﺸﺎﻕْ
ﺃﻣَّــﺎ ﺍﻟﺪﻗﺪﺍﻕْ
ﺳﻬﻼ‌ً ﻳﺎ ﺯﻭﻝ ﺗﺤﺘﻚ ﺑﻨﻄﺎﻕْ
ﺗﻘﻄﻊ ﻟﻜﻦ .. ﻻ‌ ﺣﺪ ﺍﻟﺴﻴﻒ ﻭﻻ‌ ﺑﺎﻟﺴﻜﻴﻦ
ﺣِــﺒﺮﻙ ﺿﻮَّﺍﻱ
ﺗﻤﻼ‌ ﺍﻷ‌ﻭﺭﺍﻕ
ﻣﺎﻛﺎ ﺍﻟﺤﺪَّﺍﺙ ﺍﻟﻤﺎ ﺳَــﻮَّﺍﻱ
ﺑﻞ ﻛﻠﻚ ﺯﻭﻕْ
ﻋﻨﺪﻙ ﺃﺧﻼ‌ﻕْ
ﺑﺘﻠﻢ ﺍﻟﻨﺎﺱْ
ﻗﻂ ﻣﺎ ﻓَــﺮَّﺍﻕ
ﺑـﺮ ﺍﻟﻮﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺗﺴﺪ ﺍﻟﺪﻳﻦ
ﺗﺐ ﻣﺎ ﻧﻘﻨﺎﻕْ
ﺗﺪﻱ ﺍﻷ‌ﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﻌﺼﻔﻮﺭﺍﺕ ..
ﺻﺤﺔ ﻭﻋﺎﻓﻴﺔ ﻟﻠﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ
سيرة نضالية…
عانى الراحل مرارة المعتقلات منذ عهد الرئيس الراحل «جعفر نميري»، ولم يكتفِ براوياته وتجسيده لواقع الشعب السوداني..لقب برجل المعتقلات والمواقف والصدامات فكانت بداياته مع الاعتقالات في العام 1971 إبان حكم الرئيس «جعفر نميري»..وتم وضعه في السجن لثلاث سنوات ابتداءً من 1989 نتيجة مواقفه المناهضة لحكومة الإنقاذ في السودان…وللراحل دور مؤثر في الأغنية والقصيدة الوطنية في السودان، إذ يشير نقاد ومتابعون إلى أن قصائده التي تغنى بها الفنانان السودانيان «محمد وردي» و»محمد الأمين» أسهمت في تشكيل خارطة الغناء الوطني في هذا البلد…تقول السيرة الذاتية للشاعر الكبير «محجوب شريف» إنه تلقى تعليمه الابتدائي والأوسط والعالي بين أعوام 1956-1968 في مدارس المدينة عرب ومعهد التربية بالخرطوم. وعمل منذ العام 1968 وحتى عام 1978 معلماً بالمدارس الابتدائية ومسؤولاً عن المناشط التربوية بالمدارس الحكومية، وفصل للصالح العام في عام 1989…أما الحالة الاجتماعية لشاعر الشعب فتقول:إنه متزوج من الأستاذة «أميرة الجزولي» معلمة تعمل إدارية في جامعة الخرطوم. له بنتان «مريم محجوب شريف» تخرجت في كلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية كلية الخرطوم. من مواليد 1983م، و»مي محجوب» جامعة السودان كلية الفنون الجميلة من مواليد 1987.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية