تجاني حاج موسى
عن أصدقائي أنا بحكي ليكم.. (أولاد حفرة) وما عارف قصة الحفرة دي.. لكن أظن معناها، إخوة.. فالحفرة تضم (الجريوات) (صغار الكلبة)، وهي عادة لما يجيها المخاض، بتحفر الحفرة وتلد وليداتها، والويل والثبور لمن يقرب صغارها.. كذلك الكديسة النفساء تبعد بعيد منها فهي أيضاً تدافع عن نطفتها.. سبحان الله الذي فطر خلقه بغريزة الأمومة.. وتفسير آخر لـ(أولاد الحفرة) يمكن يكونوا رفقاء السلاح الذين تخندقوا الخنادق حاملين السلاح يذودون عن حياض الوطن.. على كلٍ (أولاد حفرتي كتار)، لكن صديقي الشاعر عاشق السفر والاغتراب “عزمي أحمد خليل” حيرني أمره – الآن يقيم بواشنطن- برغم بعد المسافة وفارق التوقيت ظل على اتصال دائم بأصدقائه، وأجزم أنه ينفق (دولارات كتار) في سبيل أن يظل على اتصال بأحبته.. ولأن العالم أصبح بحجم حبة الأسبرين بسبب التطور الذي يحدث كل يوم، صار الاتصال سهلاً وميسراً (صورة وصوت) وأخبار الدنيا متاحة بتفاصيلها الدقيقة لمن يشاء.. الغريبة برغم اعترافي بقيمة هذه التقنية الرائعة التي يطورها الإنسان كل يوم، إلا أنني لا أحبها، لأنها اخترقت خصوصيات الإنسان وبعض مستغليها وهم بالملايين فيهم من يوظفها للشر، لذلك عندما أهم لمحو أميتي تكنولوجياً لأصبح من مستغلي علوم الحاسوب، أحجم، ويصدني ما يقترفه سفهاء المستغلين.. قبل أيام أصابني حزن كاد أن يسبب لي ذبحة أو سكتة قلبية حينما نشروا وفاة صديقي المايسترو الموسيقي الجميل “محمدية” شفاه الله شفاءً تاماً وعافاه من مرضه، وكم من أخبار كاذبة نجمت عنها أضرار اجتماعية وثقافية وسياسية.. ما لهم لا يعقلون فيسخروا وسائل الاتصال في ما ينفع الناس؟! أعود إلى “عزمي” الرفيق الحنين (الدمعتو قريبة)، ما سمع خبر وفاة أحد أحبائه إلا وأتى هاتفه نائحاً باكياً بالساعات حتى أشفق عليه، لكنه آثر أن لا يأتي حتى لأيام!! تناقض غريب، لأن هنالك عشرات الأسباب التي كان من المفترض أن يأتي فيها مسرعاً آخرها زواج كريمته “تحنان” وقبلها وفاة والدته!! وهو طالب في المرحلة الثانوية نظم (وتزف لينا خبر زفاف قايلنا نقدر نجهلو؟! حاشانا ما بنجهل حرف لي زول طرانا ورسلو..) وكتب (حان الزفاف وأنا حالي كيفن أوصفو؟ يا ريت هواك لي ما انكتب ولا قلبي ريدك نزفو.. الأولى لحنها الموسيقار “موسى محمد إبراهيم” وصدح بها الفنان البروفيسور أستاذ الموسيقي “عثمان مصطفى”، والأخرى لحنها ومعها آخريات الفنان الراحل “هاشم ميرغني” ودكتور “حمد الريح” غنى له من ألحان العميد الموسيقار “عمر الشاعر” (عشان عارفني بستناك أبيت ميعادي توفيهو.. أريتك كنت جيب ساكت وشلت قليبي بالفيهو).. ونظم من ألحان الراحل “العاقب محمد الحسن” أداء الفنان “محمد ميرغني” (الظروف يا حلوة دايماً .. بي عيون حلوة بتجينا).. والفنان “الهادي الجبل” (ما اتعودت أخاف من قبلك إلا معاك حسيت بالخوف.. أعمل إيه ما القسمة اختارت وكل الناس حاكماها ظروف).. وعدد مقدر من الأغنيات نظمها باقات من المشاعر، أهداها إلى عشاق الغناء الجميل الذي يجمل الحياة والوجدان.. إيه يا عزمي وأنت غريب ديار وغريب أهل!! تعال لأهلك الطيبين فمقعدك شاغر أيها الصديق.. مرة أرسل لنا مفارش سرائر أمريكية.. علق صديقي الشاعر “عبد الوهاب هلاوي”: (عزمي مجنون!! برسل ملايات من أمريكا!! الدولارات بيرسلوها ناس أمريكا)!! فاتصلت بـ”عزمي” وسألته عن قصة مفارشه التي أرسلها.. رد قائلاً: (يا أخي عشان لما تفرشوها يوم العيد تتذكروني كلكم.. الدولارات بتصرفوها)!!
و”هلاوي” من (أولاد حفرتي).. تخيلوا هذا الهلاوي المدهش وهو طالب بالثانوي يزور الراحل “زيدان” بمنزله بالعباسية مع ابن عمه ليهدي الراحل “زيدان” (مين علمك يا فراش تعبد عيون القاش.. الدمعة في الرملة وحب الندى الرقاش)، ولحنها الراحل “زيدان” فصارت إحدى روائع الغناء السوداني، وأهداه أخريات لحنها كلها الراحل (زيدان” من بينها: (أغلطوا إنتو يا أحباب.. نجيكم نحن بالأعذار).. ويمضي “هلاوي” في مسيرة الشدو والغناء الأصيل ولا زال ينثر درره في ساحات الغناء الأصيل الجميل الذي يجمل الحياة ويجعلها زاهية نضرة مليئة بقيم الخير والجمال… أما العالم والمفكر الشاعر زميل الدراسة “التجاني سعيد” فهو نسيج نفسه في أشعاره وتفكيره، وبرغم أنه ضنين ومقل في أشعاره إلا أن ما قدمه لساحة الغناء السوداني خلده كشاعر امتاز بالتجديد والرصانة والعمق، وعاميته رائعة خالدة.. انظروا وتأملوا نظمه وهو تلميذ بالثانوي يهدي الراحل “وردي”: (من غير ميعاد واللقيا أجمل في الحقيقة بلا انتظار.. صحيتي في نفسي الوجود).. ويهديه أيضاً: (عيونك زي سحابة صيف تجافي بلاد وتسقي بلاد).. ويهدي قصيدة: (زمان لو قالوا عن تاجوج روائع خلدها الدوبيت).. وتمضي مسيرة حداة ركب الأمة العاشقة للغناء بأنواعه كافة، مديح، دوبيت، إنشاد، حقيبة، تُم تُم، حوم بي، جراري، هسيس، مردوم.. الخ مسميات الغناء في بلادنا الثرية بكنوز من الإبداع المتنوع.. ويأتي الحبيب “بشرى سليمان” النوبي الجميل ليخط بيراعه الجميع للراحل “إبراهيم موسى” (بعز التوب بعزو.. بعزو وقت ينشال وينفرا).. ويهدي: (يا مواسم توهيني وزيدي في عيني أساها.. ما عيوني بدون عيونها ماشة في سكة متاهة) ليشدو بها الصديق الفنان “عبده الصغير” في أحد مهرجانات الثقافة في ثمانينيات القرن، ترى أين أنت يا “عبده الصغير”؟! ويهدي “الهادي الجبل” أغنية، ويهدي “عبد اللطيف عبد الغني” أغنيات، و”الموصلي” أغنيات، ويذهب لسنوات مهاجراً ليعود وينثر عطره ليضوع في سموات الوطن مضمخاً أعماق المحبين للجمال.
أما الرائع “حسن السر” الذي بدأ شاعراً كبيراً برائعته التي صاغ لها لحناً الصديق “أبو عركي البخيت” (بخاف أسأل عليك الناس وسر الريدة بينا يذيع.. وأخاف أكتر من إيديَّ إنت تضيع وأعيش بعدك حياتي جفاف مواسم بينا ما في ربيع).. وبضع أغنيات، وللراحل “خليل إسماعيل” (يبقى في الناس المسرة وعلى الأرض السلام).. وأخرى لـ”الهادي الجبل”، لتحد الهجرة من إنتاجه الشعري المتميز.. رد الله غربتك أيها الحبيب إلى دوحة الوطن، وأعلم أنك مترع بالحنين والشوق إلى البوح العذب الجميل.. أمس– فقط – أرسل لي هذه القصيدة: إنت حر.. يا وطني مثل الطير.. إنت غير.. سما وحمى.. صحراء وغاب ونيل.. أرض وبشر.. موازييك.. مزازيك.. موشيك.. بالنفيس الدر.. جداً خايل عليك.. يشرح القلب ويسر.. شعب ماجد ومحترم.. شتى أعراقك.. وقلب واحد يعشق الوطن الكبير.. تسلم يا وطن.. من كل شر.. من كل هم.. من كل محن.. تخرج ممتحن.. لبن من بين فرث ودم.. كأنك ما مساك ضر!! لله درك يا “حسن السر” وأنت تحمل في جوانحك كل هذا الحب للوطن الجميل.. ومن أحبائي (أولاد حفرتي) الدنقلاوي الحبيب، العصفور السوداني الجميل الذي أبعده الاغتراب جسداً أما روحه فهي دائمة الحضور عبر حدائه العذب الجميل.. حينما كنا في معية الصبا أهدى للفنان الأستاذ “عبد الله الحاج” (زهرة السوسن.. عطرك الفواح للقلوب مسكن).. وأهدى الحبيب “أبو عركي” (أقيفي أرجيني يا ريدتي عشان ألبس صديرتي.. وفوق الرملة نتمشى ونتعشى).. جعلني رسولاً له والفنان الكبير “كمال ترباس” وقتها لم يتعارفا أو يلتقيا، فحملت مدندناً لـ”ترباس” بـ(حبان قسايا نسوا.. وعلى قليبي قسوا).. وألحقها بـ(أبوي إن شاء لي تسلم.. أبوي يا “السيد” الإنسان ويا دراق سيوف الهم)، وأيضاً دندنت بها لـ”ترباس” الذي سكب فيها حسه وطربه.. و”السيد” هو اسم والد “عبد العال” أورده مثلما ضمنت اسم والدتي.. “دار السلام” – لها الرحمة– في أغنيتها الشهيرة (أمي الله يسمك).
واسمحوا لي سادتي بهذا التداعي الحبيب عن أحبتي الذين أعتز وأفتخر بهم.. هم ليسوا ككل الناس، لأنهم يستشرفون الآفاق الرائعة للإنسانية فيعصرون أحاسيسهم، فيسكبون العطر، مبشرين برسالة الحب والجمال، لذا حتى إذا رحلوا عن هذه الفانية فهم باقون، لأنهم قدحوا أذهانهم وأنتجوا للإنسانية ما جمل الحياة وجعل لها مذاقاً وطعماً.. أطال الله أعماركم حملة مشاعل النور والخير والجمال.
{ همسة: اجعلوا من أقلامكم وسائل للتبشير بالقيم المطلقة من جمال وخير وحب، ولا تسودوا بها الصفحات بسقط القول، فالكلمة الطيبة صدقة.