دراما سودانية
الدراما في العالم كله ظلت تعتمد بشكل كبير على إنتاج الأعمال الروائية وبذلك ضربت عصفورين بحجر واحد، فهي أولاً وجدت مادة درامية مميزة لأن الروايات تمتلك قدرة فائقة على الدهشة من خلال شخوصها وأحداثها وأمكنتها وأزمنتها، وأيضاً عبر تنوع مناخاتها ما بين الواقعية والخيالية أو حتى الأجواء الملحمية التي اشتهرت بها العديد من الروايات.
وهي ثانياً ومن خلال هذا الاستثمار الذكي للروايات عرفت بالروائيين الذين ينتمون إلى أقطارها وحققت لهم شهرة مضاعفة رغم أن بعضهم ظل يتحدث عن أن الأعمال الدرامية سواء الإذاعية أو التلفزيونية أو السينمائية عندما تتناول الروايات تفقدها عمقها وتجعلها مسطحة علاوة على عدم النقل الأمين لأجوائها ومناخاتها.
هذه الملاحظات لم تنجح في إيقاف نهم منتجين الدراما لإعادة تقديم الروايات درامياً ولم تفلح أيضاً في جعل الروائيين يغلقون أبوابهم في وجه صناع الدراما والدليل على ذلك أن مصر القريبة معظم ما كتبه الروائيين فيها تحول إلى أعمال درامية والكثير منها حقق اختراقات نقدية لافتة، إضافة إلى الانتشار الجماهيري الواسع.
نقول ذلك ونحن في السودان ما زلنا نفتقد إلى الإنتاج الدرامي وخاصة هذه النوعية التي نتحدث عنها والتي تستلهم الأعمال الروائية رغم أن في السودان روايات مؤهلة تماماً لأن تتحول درامياً وهي أفضل بكثير من الأفكار والمعالجات التي يطرحها كتاب السيناريو على قلتهم ومحدودية خبرتهم في هذا المجال ويكاد يتحدث معظم صناع الدراما في السودان عن أزمة السيناريو أو ضعفه وذهب البعض إلى أبعد من ذلك ورأى أن “السيناريو” هو سبب أزمة الدراما السودانية، في حين أن “الروايات” السودانية التي تقف على رصيد لا بأس به من الاهتمام النقدي والانتشار الجماهيري كان يمكن أن تسد هذه الفجوة و تملأ الفراغ الدرامي بشكل مؤثر في جانب السيناريو الذي من مكوناته عربياً وعالمياً الاعتماد على الأعمال الأدبية المختلفة وليس فقط التأليف المحض و القائم على أفكار الكتاب الدراميين.
مناسبة هذا الكلام الرصيد الذي لا يستهان به والذي تركه لنا الروائي المدهش “الطيب صالح” والذي للأسف لم يجد حتى الآن من يوليه العناية الدرامية الكافية عدا شذرات شحيحة في الإذاعة ومحاولة خجولة في السينما بينما غابت أعماله بشكل تام تقريباً عن التلفاز الذي هو الآن يعد الأكثر جذباً للمشاهدة.
مشروع تحويل قصص وروايات “الطيب صالح” إلى أعمال درامية لا يمكن أن يقوم به الأفراد أو شركات الإنتاج الخاص التي تعاني مصاعب جمة في هذا المجال وتوقف معظمها تقريباً عن الإنتاج بسبب ضعف الإمكانيات وعدم تشجيع الفضائيات الرسمية لهذا الإنتاج الخاص وشرائه بأثمان مرضية و بالتالي لابد من إنتاج مؤسسي تسهم فيه الدولة وتكون مهمته الأساسية الإنتاج الدرامي وخاصة الذي يحتفي بأدباء السودان ومنهم الرائع الطيب صالح الذي من خلاله وخلال الآخرين يمكن أن تضرب الدراما السودانية عصفورين بحجر أيضاً من خلال الارتقاء بالأعمال الدرامية المنتجة وكذلك التوثيق والتعريف أكثر بعوالم الروائيين السودانيين.. وهو مشروع من المأمول أن تبادر به الدولة ممثلة في أجهزتها المعنية و خاصة تلفزيون السودان الذي مازال يبحث عن طريقة ما لضخ أعمال درامية سودانية حقيقية وجادة تتجاوز الاسكتشات الفكاهية العابرة والمسلسلات النمطية التي لم يحقق معظمها حتى الآن القبول و الانتشار للدراما السودانية. مثلما لم يمنح هذه الدراما السودانية فرصتها الكافية لتكون إحدى واجهات البلد الفكرية والثقافية والسياحية.