المشهد السياسي

صعوبات الحوار في ضوء الأجندات

من يسمع تصريحات بعض المسؤولين الذين رحبوا بالحوار الوطني وسعدوا به بادئ الأمر، يلحظ شيئاً من الانقلاب في ذلك الترحيب. وأنا أعود هنا إلى مؤتمرات السيد “الصادق المهدي” الصحفية ومذكراته وتصريحاته الأخيرة، وإلى مواقف الحزب الشيوعي السوداني المتصلبة.
السيد الإمام “الصادق” يقرأ ما يجري في دارفور على أنه أخطاء، والعلاج برأيه العودة مرة أخرى إلى الفصل السابع الذي سبق أن أتى بمحكمة العدل الدولية ورُُفض سودانياً وإقليمياً، وكادت تموت بسببه المحكمة الجنائية التي بدا أن أجندتها وخريطة طريقها سياسية أكثر منها عدلية.
تأسيساً عليه، فإن مثل هذا التصريح وغيره – وإن حرََّك مقتل الطالب في جامعة الخرطوم قبل أيام مياه الجدل والخلاف السياسي حول الحدث – لا يناسب مرحلة الحوار الوطني وقد قطعت خطوات. ولا يبدو هذا وحده الذي يعيق الحوار عبر ما يصدر من السيد “المهدي” زعيم حزب الأمة القومي، ولكن تصريحات أخرى داوية منها قوله مؤخراً: سنعارض وحدة الوطني والشعبي حال عودتها إلى المربع الأول (أي عهد التسعينيات).. وهو في ما يبدو (هوس سياسي) في ضوء المتغيرات والمستجدات التي أفضت بالنظام الحاكم إلى مرحلة التغيير وفتح الباب للحوار.. فالنظام نفسه وقد صارت له علاقة شراكة في الحكم والسياسة مع أحزاب أخرى، هي أحزاب الحكومة العريضة الحالية.. لن يفكر في العودة إلى الخلف وإنما الخطو إلى الأمام في ظروف وأحوال متغيرة.
والعلاقة المحتملة والمطلوبة بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي محكومة في الظرف بموجبات وطنية وأخرى إسلامية وخارجية. فالاستقرار في السلم والأمن القومي والاقتصادي في البلاد هَمٌّ يشغل بال كل مواطن وتنظيم سياسي له ثقله ووزنه وأجندته. والمؤتمر الشعبي هنا يشار إليه ولا يغفل، لا سيما وأن أمينه العام “الترابي” كثيراً ما أشار إلى أنه يستطيع العمل لإطفاء نار الحرب. وهذا ليس بالقول الذي يلقى على عواهنه، فحركة العدل والمساواة بزعامة زعيمها الراحل الدكتور “خليل إبراهيم”.. ودارفور كلها، بتأثير زعيم الحزب الدكتور “علي الحاج محمد” فيها، ليست بعيدة عن تأثير المؤتمر الشعبي.
وغير ذلك هناك أشواق لعودة الشمل للإسلاميين الذين أطاحت بهم مذكرة العشرة وما تلاها.. ويبدو أنها قد صارت مما لا بد منه في الوقت الحالي محلياً وإقليمياً.
إن السيد الإمام “الصادق” سبق له بعد الانتفاضة في رجب – أبريل 1985 أن قلق وعانى من وحدة الحركة الإسلامية السودانية التي صار لها حزب حاز على أعلى حصة في دوائر الخريجين بالجمعية التأسيسية وعلى أكثر الدوائر الانتخابية في العاصمة (الخرطوم)، بحيث أصبح الحزب الثالث في البرلمان بعد حزب الأمة القومي، وقد كان الأول، والحزب الوطني الاتحادي الذي كان الثاني.
وغير ذلك، وبتأثيره، أطاح عدم مشاركة الجبهة الإسلامية القومية في حكومة “المهدي” الأخيرة – التي عوَّض فيها غياب الجبهة بالحزب الشيوعي السوداني – بحقبة “المهدي” الديمقراطية كلها.
مع ذلك، وكل هذه الخلفيات في الذاكرة، كان على السيد الإمام ألا يقلق أو يتوتر من عودة اللحمة بين المؤتمرين (الوطني والشعبي) لا سيما وأن الأمر كما قلنا يأتي في إطار متغيرات تحتم على الجميع أن يتنازل عن أجندته وثوابته الخاصة.
ونأتي من ناحية أخرى إلى الحزب الشيوعي السوداني الذي هو الآخر له هواجسه من منتجات ومخلصات الحوار الوطني التي ربما صبت دعماً للنظام الحاكم الذي يرى الحل في رحيله.
الحزب الشيوعي متعنت ويقف خلف أجندته الخاصة بموقفه من أطروحة الحوار الوطني.. واشتراطه (حكومة انتقالية) وليست قومية، كما يجري الحوار الآن. فهو كما سبق أن ذكرنا في مشاهد وتحليلات سياسية أخرى يخشى الانتخابات في 2015، واستمرار الدستور والبرلمان بشكلهما الحالي إلى ذلك الحين.
وكذا الأمر، فهو يعوِّل على:
– جرجرة “عرمان” وقطاع الشمال لموضوع التفاوض الجاري بين الطرفين – الحكومة والقطاع.
– الحركات المتمردة المسلحة وما تقوم به من حراك على المسرح.. وضغوط خارجية.
– أية عرقلة لمشروع الحوار الوطني المطروح تضطلع به الأحزاب السياسية الكبرى.
ويضاف إلى ذلك، بلا حرج أو رياء، التدخلات الخارجية في الشأن السوداني ومحاولة الانتقال به إلى الخارج (نكاية) بالنظام الحاكم..!
وحال الحزب الشيوعي وأجندته كذلك يبدو أنه أيضاً يقلق ويهم من أجندة الحوار والتفاهم بين المؤتمرين (الوطني والشعبي) التي كان آخرها وأكثرها إثارة للخواطر اللقاء الأخير – مساء أمس الأول (الجمعة) – بين الرئيس “البشير” (المؤتمر الوطني) وأركان حزبه والدكتور “الترابي” أمين عام (المؤتمر الشعبي) وقياداته. فاللقاء، وبغض النظر عن تفاصيله، فقد كانت فيه شخصيات مثل الشيخ “علي عثمان” (وطني) والشيخ “السنوسي” (شعبي).
وغمر الابتهاج والفرحة الطرفين مما بعث برسالة فحواها أن (ما فات مات..!)
إن هذه كلها وبتفاصيلها – إن صح التحليل – تبدو صعوبات في مشروع الحوار الوطني الذي يعتقد البعض ويرى أنه قد قطع شوطاً، لا سيماً بعد اللقاءات التي تلت اجتماع مساء (27) يناير الماضي الذي حضره كل رموز الأحزاب السياسية، عدا الحزب الشيوعي ورئاسة ما يعرف بقوى الإجماع الوطني.
وبقي علينا – كمراقبين ومتابعين للأحداث وقراء ومحللين سياسيين – أن ننتظر ما تسفر عنه الأيام، وذلك رغم أن حزبيْ (الشعبي والوطني) – حسب صحف أمس (السبت) – قد اتفقا على تسريع خطوات الحوار وألا يستثنى الحوار أحداً.. بما في ذلك حاملو السلاح.
وقد أضاف الدكتور “مصطفى عثمان إسماعيل” أن اللقاء أكد أيضاً على أن الحوار ملكٌ للقوى السياسية، فهي التي تحدد مكانه وزمانه وأجندته وسقفه وهياكله.
ما أسفر عنه اللقاء بين “الترابي” و”البشير” كان جيداً بتفاصيله سالفة الذكر، وكان كخبر سياسي وإعلامي قد غطى على أخبار الآخرين من الساسة الذين كان لهم حضورهم الإعلامي، ونخشى أن يؤثر ذلك (نفسياً) وسياسياً على أولئك، ولكنه الإعلام يصطاد الفرص ويتحيََّنها..!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية