تقارير

قصة مبادرة ماتت وشيعها ربانها (2)

بدأت الحركة الشعبية (شمال) تنتظر حدثاً ما وهي لا تكترث كثيراً لآلية الوسيط «ثامبو أمبيكي» وترفض الالتزام بمقترحات الوسطاء لأجندة التفاوض.. وحينما توقع المراقبون صدور إدانة صريحة من الوسيط «أمبيكي» للحركة الشعبية وعدم التزامها، جاء نص البيان محبطاً ومبرراً لسلوك الحركة بخروجها عن مقترحات «أمبيكي» كما ورد في البيان الختامي. ولقد جاء التعليق بمناسبة وصول الطرفين إلى طريق مسدود حول المقترح الذي قدمته الهيئة تمشياً مع الموجهات السابقة لمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة («وبما أنه من حقها» انظر للمبادرة بين القوسين جيداً، فقد تقدمت الحركة الشعبية شمال بمقترح يختلف كلياً، الأمر الذي جعل التوصل لاتفاق متعذراً، ومن وجهة نظر الهيئة كما هو الحال من المستحيل ردم الهوة بين الأطراف، ولذلك ستحيل الأمر للجهة صاحبة التفويض، وهي مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي وذلك لمزيد من التوجيه).
لقد بررت آلية الوسيط «أمبيكي» خروج الحركة الشعبية عن المقترحات التي قدمتها.. وهي مقترحات تحدد مرجعيات التفاوض المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن (2046) وتكليف الوسيط «أمبيكي» من جهة الاتحاد الأفريقي، فإذا كان من حق الأطراف الخروج عن مرجعيات التفاوض.. إذاًَ لا قيمة أصلاً لتلك المرجعيات؟! وحينما أقدمت الحركة الشعبية على تقديم ورقتها وهي على يقين بأن الحكومة سترفضها شكلاً وترفضها مضموناً، فإن الحركة تمد أفقها إلى البعيد وتنظر لما هو قادم.. بعد أن نشطت في لقاءات الدبلوماسيين الغربيين وعقدها لمفاوضات امتدت ليومين بعاصمة دولة يوغندا «كمبالا»، حيث اتجه المبعوث الأمريكي «دونالد بوث» إلى هناك والتقى قادة الحركة الشعبية في اجتماعات مطولة واتجه هو إلى «واشنطون» وبعث باثنين من مساعديه إلى «أديس أبابا»!! فهل طمأن المبعوث الأمريكي قادة الحركة الشعبية بأن بلاده «واشنطون» ستتبنى مشروع عقوبات على الخرطوم حال فشل مفاوضات جولة «أديس أبابا»، ورفع الوسيط الأفريقي حيثيات فشل المبادرة لمجلس السلم والأمن الأفريقي الذي يمثل دور (الوكيل) لمجلس الأمن الدولي؟؟ واللقاءات التي عقدها وفد الحركة الشعبية والنشاط والحيوية في أوساط الدبلوماسيين العرب والأجانب الذين توافدوا لمقر المفاوضات، يشير بوضوح إلى أن الحركة الشعبية قد وجدت إشادات وتشجيعاً من القوى الإقليمية والدولية للتمادي في وضع العراقيل أمام نجاح المبادرة الأفريقية. وموقف «ياسر عرمان» و»مبارك الفاضل» الداعم لتدويل حتى قضية الحوار الوطني، ما هو إلا تجلٍ لما قد يحدث في اجتماعات مجلس السلم والأمن الأفريقي التي كان مقرراً لها الانعقاد في شهر أبريل القادم، قبل أن يتخذ رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي قرار دعوة المجلس لاجتماع طاريء يوم بعد غدٍ (الاثنين). ويخاطب الجلسة مساعد رئيس الجمهورية بروفيسور «إبراهيم غندور» حول أسباب فشل مفاوضات السلام، ولا تستطيع الحركة الشعبية مخاطبة اجتماعات مجلس الأمن لأنها ليست دولة ولا كياناً معترفاً به. والأوضاع داخل مجلس السلم والأمن الأفريقي لا تخضع لمنطق الحق والالتزام بما ورد في نصوص المبادرة الأفريقية، ولكن ثمة عوامل خارجية هي التي تسهم في طبيعة القرار المنتظر صدوره. وحينما كان الوفد الحكومي في «أديس أبابا» ينتظر إدانة من الوسيط «أمبيكي» لخروج الحركة الشعبية عن مقترحات آليته، تفاجأت الحكومة (بالتبرير الرمادي)، الذي جاء في صدر بيان الاتحاد الأفريقي. وقال: (من حق الحركة الشعبية الخروج عن مقترحات الوسطاء..). ولا عجب أن خرج قرار مجلس السلم والأمن الأفريقي بإدانة حكومة السودان والتوصية لمجلس الأمن بمعاقبتها بموجب الفصل السابع. وقد نجحت الدبلوماسية السودانية من خلال زيارات لكل من الفريق «عبد الرحيم محمد حسين» وزير الدفاع والسيد «علي كرتي» وزير الخارجية للقاهرة في (إذابة) الجليد الذي سد دروب علاقة السودان بمصر منذ سقوط نظام الرئيس «محمد مرسي»، وشكوك القاهرة حول الخرطوم بأنها تشجع الإسلاميين.. مع أن الإسلاميين في مصر يشعرون بخذلان النظام السوداني لهم.. والوقوف بعيداً عنهم وقريباً من الحكومة العلمانية العسكرية في الصراع الحالي، إلا أن «عبد الفتاح السيسي» قد قال علناً إن الفكر الإسلامي الذي انقلبوا عليه في القاهرة يسكن بالقرب من مصر، وهو فكر غير قابل للحياة في المنطقة!! ولكن مصر عضويتها مجمدة في الاتحاد الأفريقي ولا تمثل إلا صفراً كبيراً في الساحة الأفريقية بعد الانقلاب العسكري الذي رفض الأفارقة الاعتراف به. وأي تحسن في العلاقات بين القاهرة والخرطوم سيتبعه بالضرورة تحسن في علاقات السودان العربية بدول الخليج التي تمثل ثقلاً في المنطقة كالسعودية والكويت والإمارات. ومن ترضى عنه الرياض وأبو ظبي والقاهرة والكويت تقبل عليه الولايات المتحدة الأمريكية لتضعه في حضنها الدافيء.. لكن مصر لها شروطها وأجندتها ومصالحها. وأول مطلوبات العلاقة الجيدة مع القاهرة أن (تراعي) الخرطوم مصالح القاهرة في مياه النيل قبل مصالحها.. هي!! وذلك ما يضع السودان في مواجهة مع جيرانه الأقربين ممن يستطيعون حصاره بالتمرد. وإثيوبيا التي احتضنت التمرد منذ ميلاده في عام 1983م، ألحقت الكثير من الضرر بأمن السودان واستقراره وهي أقرب إليه مودة من القاهرة والرياض.. وتمثل إثيوبيا ثقلاً في القارة الأفريقية وعلاقات السودان الأخرى مع جيرانه من جوبا ونيروبي وجيبوتي وتشاد والكنغو ونيجيريا، قد يجعل من الصعوبة تمرير قرار في غير مصلحة السودان أو متحيز بشدة ضده.. إلا أن مجلس الأمن الدولي الذي يترقب من بعيد خطف القضية من أهلها فهي ساحة لا يملك السودان فيها شيئاً، وقرارات مجلس الأمن ملزمة ونهائية إلى في حالتين: إذا كانت الدولة المتخذ بشأنها القرار من الدول التي تملك حق النقض، أو أن يصبح النظام خارجاً عن الشرعية الدولية ويائساً من الحياة، كالنظام العراقي قبل سقوط «صدام» والنظام السوري الحالي أو مثل إسرائيل دولة تحظى بدعم ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية.
{ الفشل الحتمي للتفاوض؟؟
هل كان متوقعاً من مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية (قطاع الشمال) الوصول لتسوية، ولو انعقدت ألف جولة؟؟ إن الطريقة التي انتهجتها الوساطة الأفريقية في المفاوضات لن تبلغ النجاح الذي تحقق في «نيفاشا» وذلك لعدة أسباب.
أولاً: المفاوضات في «نيفاشا» كانت بين صناع قرار في الوفدين، فالأستاذ «علي عثمان محمد طه» كان يمثل في ذلك الوقت العقل المدبر للمؤتمر الوطني ومركز الثقل الفكري والتنفيذي والروحي، باعتباره من جهة أخرى يمثل تيار الإسلاميين داخل السلطة إن جاز التعبير، ويستطيع أن يقرر في كثير من القضايا قبل أن يصبح هو نفسه ضحية لنيفاشا ويدفع ثمنها شخصياً. والطرف الآخر د.»جون قرنق دي مبيور» هو رئيس الحركة الشعبية والقائد العام للجيش الشعبي، ولا صوت يعلو على صوته داخل الحركة، ولذلك التفاوض كان بين متنفذين في الحركة والحكومة. أما الآن فإن المتنفذ الحقيقي في الحركة الشعبية ليس «ياسر عرمان» كما يعتقد البعض ولا «مالك عقار» رئيس الحركة، ولكن القائد الحقيقي وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة هو السيد «عبد العزيز الحلو» الذي يتنقل ما بين رئاسة الحركة الشعبية في (تبانيا) و(اللويرا) و(كرجي) وسلسلة جبال المورو، بينما يتجول «مالك عقار» بسيارته (الهمر) السوداء في شوارع «أديس أبابا». ومن جهة الحكومة صحيح أن البروفيسور «إبراهيم غندور» مفوض من قبل الرئيس ويحظي بثقته، وهو سياسي واقعي يحظى بتقدير واسع من القوى السياسية وحتى المتمردين يعتبرونه شخصية واقعية تحترم الخصوم والمنافسين، ولكن شتان ما بين نفوذ البروفيسور «غندور» اليوم في الدولة ونفوذ علي عثمان» في أثناء مفاوضات نيفاشا، كما أن «غندور» يحيط نفسه في التفاوض بعدد كبير جداً من العسكريين والأمنيين.. وحينما كان د.»أمين حسن عمر» و«سيد الخطيب» ود.»يحيى حسين» و»إدريس محمد عبد القادر» ود.»عبد الرحمن إبراهيم الخليفة» يمثلون السند الفكري والسياسي لرئيس وفد التفاوض، فإن البروفيسور «غندور» يطغى على تكوين وفده العسكرون المتقاعون وفي الخدمة، حيث يحيط به الفريق «دانيال كودي» واللواء «محمد مركزو كوكو» واللواء «حسين كرشوم» واللواء «عادل حسن» واللواء «جمال» نائب مدير المخابرات والعميد «مصطفى» من جهاز الأمن، والعقيد (م) «الشفيع الفكي» والفريق «محمد جرهام عمر» ومن السياسيين «عمر سليمان» ود.»حسين حمدي» ود.»سليمان عبد الرحمن» و»نايل أحمد آدم».. بينما وفد الحركة الشعبية الذي يقوده «ياسر عرمان» يطغى عليه العنصر السياسي من «مبارك عبد الرحمن أردول» الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية، وهو كان ناشطاً في جماعة أنصار السنة المحمدية بمدينة الدلنج، ومن الشباب الإسلاميين المتطرف جداً.. ولكنه تقهقر للحركة الشعبية، ود.»أحمد عبد الرحمن سعيد» وهو مثقف عميق وقاريء جيد وأكثر القيادات تأهيلاً لخلافة «عبد العزيز الحلو» في قيادة الحركة الشعبية و»بثينة إبراهيم دينار» و»ازدهار جمعة».. وبينما كانت الحركة الشعبية تنتظر شيئاً ما في الأفق البعيد وتضع المتاريس أمام المفاوضات، فإن المؤتمر الوطني أو وفد الحكومة كان أكثر حرصاً لتسجيل نقاط في شباك الحركة الشعبية.. وكل ذلك لن يحقق سلاماً.. ووضعت الآلية الأفريقية القضايا الثانوية مقدمة على القضايا الحقيقية، فطبيعة الحركة الشعبية كتنظيم عسكري والحكومة السودانية باعتباره خرج من رحم القوات المسلحة كان المرتجى والمأمول أن تسلك المفاوضات درب «نيفاشا» وتضع (جند) الترتيبات الأمنية والعسكرية أولاً، ثم القضايا السياسية والإنسانية ثانياً.. وذلك هو المنهج الذي اتخذته «نيفاشا» مع أن الصحيح إعلاء شأن القضية السياسية باعتبارها الإطار الحاكم والضابط لبقية القضايا، إلا أن طبيعة التنظيمين تجعل الأولوية العسكرية والأمنية تعلو على الاعتبارات السياسية. ولم يشأ المؤتمر الوطني والحركة الشعبية تقديم رؤيتهما لقضايا المنطقتين، أي نظام حكم يتبع في الدمازين وكادقلي، وهل الفيدرالية الحالية التي تجعل الوالي (موظفاً) لدى الحكومة المركزية ينفذ توجيهات المرك، ويرعى مصالحه ولا يستطيع شراء سيارة لولايته إلا بموافقة الخرطوم هو النظام الأمثل؟؟ أم الحل في الحكم الذاتي الذي دعا إليه «مالك عقار» من قبل. والآن جهر «حاج ماجد سوار» من داخل أسوار المؤتمر الوطني ومن قلب الحركة الإسلامية بالدعوة لتطبيق نظام حكم ذاتي في المنطقتين لحل قضيتها.. ولكن لماذا تتمسك الحركة الشعبية بنصف قرار مجلس الأمن (2046) وتترك النصف الآخر ويتمسك المؤتمر الوطني بذات القرار، ولكن لا تروق له الإشارة إلى اتفاق «نافع» «عقار» (المضمن) في القرار (2045).
أولاً: الحركة الشعبية تبحث عن إقرار من المؤتمر الوطني بحقها في الدخول في شراكة سياسية كاملة لوحدها.. وأن تنال على الأقل نصيباً لا يقل عن نصيب الحركة الشعبية (الأم) قبل انفصال الجنوب.. وأن تسند ظهر متمردي حركات العدل والمساواة وتحرير السودان و»مناوي» لنيل مقاعد مركزية، ليصبح نصيب المؤتمر الوطني في الحكومة المركزية نحو (35%) وتذهب بقية المقاعد للحركة الشعبية وحركات التمرد في دارفور، وأن لا يتجاوز نصيب الحزب الاتحادي وحزب الأمة وأحزاب الوحدة الوطنية (10%). وتغمض الحركة الشعبية عينيها عن البند الوارد في القرار (2046) الذي يجعل التفاوض في «أديس أبابا» حصرياً لقطاع الشمال، وفي ذات الوقت لا يطيق المؤتمر الوطني وجود حتى وزير واحد من الحركة الشعبية في الحكومة الاتحادية.
ويفضل (حصر) مشاركة الحركة الشعبية في (المنطقتين) فقط دون أي تمدد مركزي ولا بوزير دولة واحد.. وتسريح جيش الحركة الشعبية في مدة أقصاها ستة أشهر فقط من بدء إنفاذ الترتيبات الأمنية العسكرية. وأن يتم استيعاب المقاتلين في القوات المسلحة والشرطة والأمن وفق شروط هذه المؤسسات والضباط وفق المؤهلات الأكاديمية والعسكرية، وما تبقى من الفائض يذهب إلى (التسريح). ويغمض المؤتمر الوطني عينيه تماماً عن الشراكة السياسية مع الحركة الشعبية. وفي ظل هذه المواقف لا تلوح بوادر توصل لاتفاق مهما تطاولت مدة المفاوضات وتعددت الجلسات، كما أن القوى الدولية التي كانت (تضغط) بشدة على الأطراف في مفاوضات «نيفاشا» قد أصابها الرهق والتعب، حيث لا وجود فعلي لمبعوثين لبريطانيا وكندا والنرويج وألمانيا وهولندا، وتبقى فقط المبعوث الأمريكي والذي يبدو دوره أقرب لمساندة الحركة الشعبية وتحريضها على اتخاذ مواقف متشددة انتظاراً لما هو قادم، بينما كان اليسناتور الأمريكي «جون دانفورث» قد لعب دوراً جوهرياً وكان موضوعياً في تعاطيه مع الأطراف جميعاً دون تحيز صارخ كما هو ماثل الآن!!
إذاً بناءً على كل ما ورد فإن الوصول لسلام من خلال المفاوضات الحالية هو المستحيل بعينه!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية