حديث لا بد منه رقم (7)
} قلنا إننا أخذنا من معتقلنا بسجن عطبرة عندما طلب السيد “أبو القاسم محمد إبراهيم” الاجتماع بنا، وهو يمثل قمة الجهاز التنفيذي والسياسي في نظام مايو. وكان ذلك بالاتحاد الاشتراكي في يوم الثلاثاء الموافق 11 أبريل 1978م، وقلنا إن كل قيادات الاتحاد الاشتراكي بالمديرية وعطبرة وقيادات الشرطة والأجهزة الأمنية كانوا موجودين في هذا اللقاء، الذي كان بعد لقاء العمال المفتوح بنقاباتهم، واتفق معهم على اللقاء بنا والتباحث معنا ثم الإفراج عنا، وطالبهم بالعودة لعملهم بعد أن أقر لهم سحب الثقة من قيادات نقابتهم.. فماذا قال “أبو القاسم محمد إبراهيم” في هذا اللقاء؟
} لقد خاطبنا بداية بلهجة حادة فيها الوعيد والتهديد بأن مايو لن تهزم لأنها جاءت من أجل العمال والبسطاء، فهي لا تخاف المجابهة مع أي كائن من كان، وأنهم يرفضون التحريض على الاعتصامات وترك العمل، ثم قال: هذا أسلوب فوضى، ومن جانبنا لا نقبله ولا نمانع في الحوار الهادف والبناء، وأنتم باعتباركم قيادة للعمال في هذه المرحلة أردت أن أسمع لكم فتفضلوا تحدثوا، وأريد أن أستمع إليكم..
} عندها وقفت وحمدت الله وأثنيت عليه وصليت على رسولنا وحبيبنا محمد “صلى الله عليه وسلم”، ثم قلت: أخي “أبو القاسم” بالأصالة عن نفسي، وبالإنابة عن أخوتي أعضاء المتابعة، بل عن العمال قاطبة، نحييك بتحية الإسلام الخالدة ونرحب بك في مدينة عطبرة مدينة العمال الذين قدموا الكثير لهذا البلد في غير منّ ولا أذى، ونحن الآن بين يديك نقول لك: لا نخاف إلا الله وحده ولا بد أن نذكر لك حديث النبي الكريم الذي قال فيه: (لا يحقرن أحدكم أن يرى لله أمراً فيه مقالة، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا فيقول مخافة الناس، فيقول الله إياي أحق أن تخاف).. إذن أخي النائب الأول، نحن العمال لا نخاف أحداً إلا الله، ونحن لسنا موكلين من جهة حزبية ولا طائفية، نحن نملك إرادتنا ولسنا مرهونين لأحد. نحن اتفقنا ضد قيادات نقاباتنا التي لا تبالي بنا وتريد البطش بالعمال.. يقولون إن وراء ذلك أحزاباً سياسية والجبهة الوطنية وإننا الأعداء، أقول لك: نحن لسنا بأعداء ولكننا أهل وطنية خالصة، وإنهم هم الأعداء، أقصد بذلك قادة النقابة.. والأخ الرئيس القائد “جعفر نميري” قد عرض الآن أمر المصالحة الوطنية، وهي على الأبواب ويريد وحدة الصف الوطني، لكن هؤلاء لا يريدون، وهم كما قال تعالى في كتابه العزيز: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) صدق الله العظيم.
أخي “أبو القاسم”.. العمال يعانون أشد المعاناة، حتى أن أحدهم لا يستطيع أن يتناول وجبة الإفطار فيظل في موقع العمل من غير إفطار، لأنه لا يملك قيمته، وبعضهم يفطر على شيء من الفول السوداني ويشرب عليه الماء.. نحن لسنا ضد ثورة مايو ولكننا ضد قيادة نقاباتنا، وقد رفعنا مذكرة حوت ثلاث نقاط ولا رابع لها، وهي حل النقابة لأنها أضاعت حقوق العمال وأهدرت كرامتهم ورمتهم بكل كريهة، ثم تشكيل لجنة تسيير لتكون بمثابة لجنة تمهيدية، وقيام انتخابات عامة للنقابة تكميلية لهذه الدورة بحرية كاملة لا عزل فيها لأحد ولا تزكية من جهة لكي يختار العمال من يمثلهم، ثم معالجة الندرة في السلع الضرورية وضبط الأسعار واتخاذ الإجراءات الكفيلة بذلك، ونحن من جانبنا نعد برفع معدلات الأداء والإنتاج من أجل مصلحة البلاد والعباد والعمال، وهذه هي كانت مطالبنا التي اعتقلنا من أجلها وأخرج العمال من الورشة بشأنها.. ولكم شكرنا وتقديرنا أخي النائب الأول.. والسلام عليكم ورحمة الله. وعندها فضجت القاعة بالتصفيق العاصف والشديد، واستمر نحو خمس دقائق بصورة موحدة من أعضاء لجنة المتابعة، وكأنهم أمنوا على هذا الحديث وأنه حديثهم جميعاً..
} عند ذلك، أنبرى الأخ النائب الأول وقتها “أبو القاسم محمد إبراهيم” ثم قال إنهم مع الحق وقول الحق، وهم مع القاعدة العمالية العريضة لا مع الأشخاص، وكان يشير إلى قيادة النقابة السابقة، حيث كان الضباط الثلاثة للنقابة حضوراً لهذا اللقاء، وهم الأخ رئيس النقابة وقتها “محمد الحسن عبد الله” طيب الله ثراه وعامله بالإحسان، والأخ سكرتير النقابة “عثمان علي فضل” كذلك عليه الرحمة والسلوان، والأخ أمين خزانة النقابة الأخ “كمبال بشير”، إذا كان حياً أطال الله في عمره وإذا كان قد انتقل للدار الآخرة فله واسع الرحمة والمغفرة.. لأنه ليس لنا معهم عداء شخصي والدافع لذلك هو الصالح العام، وفي واقع الأمر هم إخوة لنا لهم مكانتهم وتقديرهم.. ثم واصل الأخ “أبو القاسم” في حديثه قائلاً ومشيراً إلينا: وأنتم تمثلون القاعدة العمالية العريضة، ثم أن الأخ الرئيس القائد “جعفر نميري” قد أعلن في ولايته الثانية الدستور الإسلامي والتمسك بالقرآن والسنة، ثم استطرد قائلاً إنه لن يشفع لأحد ولن يدافع عن أحد مهما كانت علاقته وقرابته إلا بحق.. وتمت مقاطعته بتصفيق عاصف، رضاء بحديثه هذا.
} تحدث الأخ “أبو القاسم” بانفعال شديد وصدق واضح في لهجته حتى دمعت عيناه، وأعلن أنه ذكر للعمال حق سحب الثقة من قيادتهم ثم قال: أنتم أصحاب الحق فمارسوا حقكم، لا حجر عليكم في ذلك.. ثم دخل في ملاطفة ومداعبة مع الإخوة أعضاء المتابعة وأعلن إطلاق سراحنا.
} ثم ماذا حدث بعد ذلك؟! هذا ما نقف عليه في عددنا القادم إن شاء الله.