أخبار

أبيض وأسود

الأفق الضيق (غير المبدع ولا الخلاق) يحصر الأشياء في بديهيات سطحية إلى أبعد الحدود.. لا يجرؤ على اقتحام ما وراء الظاهر ولا يغامر بالخروج عن مألوف السائد.. يكتفي فقط بمرجعية المستهلك اليومي ويرتضي بترديد (المحفوظ) و(المكرور)..(الألوان) مثلاً يتم الترويج لمعانيها ودلالاتها على نحو مجحف وهزيل.. ولا يعبر عن المخزون اللوني بمثوله المدهش وتماهيه الرائع.. مجرد انعكاس لفظي غير محسوس يتم إطلاقه على هذا اللون أو ذاك.. فلا يعبر عن (حقيقة) اللون وسطوته الفلسفية.. يجرده من مذاقه وطعمه ورائحته.. يجعله باهتاً..عديم اللون والمعنى.. يقسو عليه ويحمله تبعات الانفعالات البشرية المندفعة الى حد الحماقة أحياناً.. لماذا إذن اللون (الأبيض) هو كل التفاؤل والاستبشار؟!.. لماذا إذن اللون (الأسود) هو كل التشاؤم والحزن؟! من منح للأفق الضيق حق خلع اللون على المعنى.. ألا يمكن مثلاً أن تنقلب المعادلة جملة وتفصيلا.. الأسود مكان الأبيض.. والأبيض مكان الأسود..؟
وبعيداً عن هذين اللونين اللذين هما دائماً طرفي النقيض فإن الألوان الأخرى تتعرض لنفس (الارتباك) في الاصطلاح و(التجريد) الذي لا يعني التعميق بقدر ما يعني التسطيح.. (الأحمر) يقولون عنه إنه لون (الحب) بينما يقول آخرون إنه لون (الثورة) ولا نعرف ما العلاقة بين الاثنين.. بين منتهى الرأفة ومنتهى الغضب.. وتتوالى تناقضات الأفق اللوني.. الذي ربما يكون (نقمة) في خارجه.. (نعمة) في داخله.. إذ إن هذا المتسع من الخيارات يكتب للألوان بقاءها ويسهم في ترويج الأزياء والديكورات حسب الموضة.. فالموضة دائماً مرتبطة باللون.. حتى(الأسود) المتشاءم منه يصبح أحياناً موضة (مواسم) كاملة.. ويستحوذ على نصيب الأسد في أزياء (السهرات).. الليلية طبعاً وليست النهارية!! وبينما شعوب ترتدي الأزياء (السوداء) في فترات أحزانها نجد أن هناك شعوباً أخرى ترتدي الأزياء (البيضاء) ويا للمفارقة!!
أقصد.. ماذا يعني (اللون) وكيف يمكن أن نثري تجربته الإنسانية بدلاً من محاصرته في أفق ضيق؟! المسألة تحتاج إلى اتساع في الأفق والرؤية ونفض لغبار الذاكرة.. حتى ولو على شاكلة نظرية (الاحتمالات) وربما الخوض في (المألوف) و(المتداول) بقراءات أخرى جديدة.. أليس (الرمادي) مثلاً هو الشيء الوسطى ما بين (الأسود) و(الأبيض).. ألم يرتبط بعدم تحديد الأشياء حين لا يكون (الأمر) أما أسود.. وأما أبيض!!.. لكن لماذا ننسى أنه (الابن) الشرعي للأسود والأبيض وأن منتهى النقيض ومنتهى النقيض الآخر هو الذي أوجده !! (تشكيلياً) لا نعرف ما إذا كان خلط الأسود بالأبيض يؤدي إلى (الرمادي).. لندع إذن المنهجية التشكيلية جانباً ولنحاور تلك الألوان التى نجهلها !!
الكاتبة والروائية العراقية لطيفة الدليمي تحتفي باللون (الأسود) على طريقتها الخاصة وفي كتابها (في المغلق والمفتوح) ثمة أفق جديد للألوان.. وخاصة (الأسود) تقول في أحد مقاطعها الاحتفائية بالأسود: (من العتمة يولد الضياء ومن الليل يولد النهار.. في الأسود الليلي تكمن مفارقة الأبيض النهاري، النهار يولد مثل جنين في عتمة الغموض الليلي.. ويخبئ في حضنه قرص الشمس.. في الأسود الليلي تتشكل أحداث الكون العالم، أحداث الطبيعة ، تحولات الجسد، العشب، الشمس، في الأسود ينطوي ما هو مفتوح منشور، يلتم على نفسه، الزهرة التي تتحسس الضوء تغلق بتلاتها على سرها في الليل، أوراق شجرة الميوزا تنطبق في المساء وزنابق ملكة النهار تنام في غيمة الأسود الليلي وتحتمي وجودها من التفتح الدائم المفضي إلى فناء سريع: تؤجل رحيلها .
ما أبهى هذا التجلي اللوني كما تستحضره (لطيفة الدليمي) والتي تزيد على ذلك واضعة الحالة اللونية وهي تعلن أن وجود الأسود ينفي الأبيض ويؤكده، الأسود هو الحالة المثلى المؤكدة في العالم قبل الشروق والتفتح، الأبيض وهم اندماج الألوان، الأسود حقيقة إتحاد الألوان وامتصاصها لكل (فوتونات) الضياء!!.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية