المشهد السياسي

قطاع الشمال .. ومرجعياته

وصلت المفاوضات بين الحكومة وقطاع الشمال إلى طريق مسدود، مما رآه البعض دخولاً للشيطان في التفاصيل، كما كان يقول العقيد “جون قرنق” – رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي – ويقول البعض الآن. والحقيقة هي أن الشيطان كان حاضراً في مرجعيات (قطاع الشمال) منذ البداية، وقد وصل اتفاق نيفاشا 2005م ببروتوكولاته وتفاصيلها إلى الحل النهائي الذي أدى إلى السلام وإلى أن تكون هناك دولتان متجاورتان إحداهما جمهورية السودان والأخرى جمهورية جنوب السودان، وصار كل يتحدث ويعمل في إطاره المعروف ولا يتدخل في شأن الآخر.. إلا عبر الوسائل واتفاقيات التعاون المتفق عليها بين البلدين.
قطاع الشمال، وقد أنهى الحل السياسي واتفاق السلام ما كان يعرف بالسودان العلماني الاشتراكي الموحد بالسلاح، لم يعد له أن يتحدث بتلك اللغة القديمة، لا سيما وأن ما يعرف بالمنطقتين اللتين يجري التفاوض حول جعلهما خاليتين من أشكال التمرد وعدم الاستقرار الآن، هما بعض ولايات جمهورية السودان السبعة عشرة، ولهما مرجعياتهما الدستورية والتنفيذية.. حيث لكل مجلسه التشريعي وجهازه التنفيذي.
إلا أن السيد “عرمان”، رئيس القطاع، جاء إلى مفاوضات “أديس أبابا” في الأيام القليلة الماضية بأجندة وخطة عمل هي:
– أولاً: فتح الحدود للعون الإنساني بلا رقابة من الحكومة السودانية.
– ثانياً: الحل الشامل لكل قضايا السودان وليس قضايا المنطقتين – النيل الأزرق وجنوب كردفان.
وكلا هاتين النقطتين فيهما عدم اعتراف بحق الحكومة المنتخبة ورئيسها المنتخب في انتخابات 2010م التشريعية والرئاسية، التي خاض الجانب الرئاسي فيها “عرمان” بنفسه ولم يحصل على أكثر من مليونين من الأصوات..! إلا أنه الآن يريد عبر مرجعياته الداعمة له من الداخل والخارج أن يتحدث بتلك الطريقة.. في وقت تميل فيه الساحة السياسية الداخلية إلى الإجماع والحوار الوطني الإيجابي بلا شروط مسبقة، إذ الأمر كله في النهاية (متروك) إلى الشعب وإلى الرأي العام.
الأجندة المذكورة يرى المراقب والمتابع للشأن السياسي أنها غير مقبولة، إذ:
– كيف للحدود أن تفتح على مصراعيها ودون رقابة رسمية ليدخل من خلالها الدعم الإنساني للمواطن ودعومات أخرى تؤجج عدم الاستقرار؟ فهناك من يقف مع قطاع الشمال وآلياته المتمردة التي أججت الوضع من قبل في “أبو كرشولا” و”الله كريم” و”أم روابة”..؟
– وكيف لمن لم يكسب الانتخابات في 2010م أن يفرض حلولاً لكل قضايا السودان.. وهناك الفرصة متاحة الآن لعرض كل الآراء والحلول لمشكلات البلاد..؟
نحن نعلم أن هناك أحزاباً من التي لا تخفي دعمها لقطاع الشمال، لم تحدد موقفها بعد من الحوار الوطني المطروح بلا شروط من جل الأطراف ولا سيما أكبرها وهما (حزب الأمة القومي والمؤتمر الشعبي). فتلك الأحزاب – المساندة لعرمان – تشترط وضعاً انتقالياً كاملاً وليس حكومة قومية.. ومن بعد لا تميل إلى الانتخابات المزمعة في عام 2015م. ويبدو أن إصرار “عرمان” على الحل الشامل يعني المنطق بأجندة حلفائه.. التي لا بد أنها قد وصلته وهو في جولة التفاوض في “أديس أبابا” الأسبوع الماضي، التي لم يحسم الجدل حول نجاحها وفشلها تماماً.
“عرمان” لم تأته الضغوط من أحزاب تحالف قوى الإجماع الوطني فحسب، وإنما من جهات خارجية ظلت على الدوام تعمل من أجل إسقاط أو تعويق النظام الحاكم، خاصة بعد الأحداث الأخيرة في دولة جنوب السودان، التي طالت الشعب والمجتمع والحزب الحاكم هناك (الحركة الشعبية لتحرير السودان) وزعاماتها ممن يعرفون بأولاد قرنق، والسيد “عرمان” أحدهم لا ريب، بل العصا التي يهشون بها في شمال السودان مع آخرين..!
قطاع الشمال والأوضاع كذلك، يبدو أداة الضغط الوحيدة المتاحة ضد النظام الحاكم في جمهورية السودان، وهناك الآن – من ناحية أخرى – عملية سلام تجرى مع آخرين في دارفور وغيرها، زائداً أن القدرات الأمنية والدبلوماسية قد نمت وتضاعفت في الآونة الأخيرة، إذ أن كل دول الجوار تقريباً، بما فيها جمهورية جنوب السودان، قد صارت لها علاقات أمنية واقتصادية ودبلوماسية جيدة.
والوسيط الأفريقي الذي يرعى المفاوضات الحالية في “أديس أبابا” وفي البلاد بشكل عام، ليس بعيداً عن ذلك، وقد وعد بأن يكون له بيان نهائي في ما يجري، وبعد مشاورات وضغوطات مارسها على الطرفين بغرض الوصول إلى اتفاق يحقق السلام الكامل ويدعمه.. فقد سبق للسيد “أمبيكي” راعي المفاوضات أن قال (إنها – أي هذه الجولة من المفاوضات – ستكون الأخيرة..!) حيث ليس هناك وقت – حسب ما نرى – يمكن اللعب عليه والساحة السياسية في السودان قد أصبحت في جملتها أكثر جذباً للتعاون والتفاهم والحوار الوطني الإيجابي والمنتج، بعد خطاب الرئيس “البشير” الأخير ومخرجات مجلس الشورى الطارئة للمؤتمر الوطني بعد ذلك مما دعم ما جاء في ذلك الخطاب.
المفاوض الرسمي في “أديس” البروفيسور “غندور”، وبين يديه ذلك كله وهو مسؤول رئاسي وسياسي، كان حريصاً على نجاح المفاوضات المذكورة.. فقد قال عنه من حضروا المفاوضات وراقبوها من الصحفيين إنه – أي “غندور” – امتلك عنصر المبادرة الإعلامية وتعامل ببرود مع ما كان يستفز من الطرف الآخر.
ذلك لا محالة شيء جيد، والسيد “أمبيكي” راعي المفاوضات يقول إنها ستكون الجولة الأخيرة، فعلى الجميع عدم إفشالها.. لكن من يقول إن الشيطان لن يدخل في التفاصيل..!
رئيس وفد الحكومة الدكتور “غندور” قال إن الحكومة:
– ملتزمة بالمرجعيات الأساسية للقضية في المنطقتين (جنوب كردفان والنيل الأزرق).
– مع الاحترام الكامل للآلية الأفريقية والاستعداد المطلق لمواصلة الحوار بغرض الحل.
وما دام ذلك كذلك.. فمن أين دخل الشيطان ليفسد المفاوضات؟ لقد دخل – في ما يبدو – من ورقة “عرمان” وما اشتملت عليه من أجندة اعتبرها الطرف الآخر (خارج النص) أو بعيدة عما قصد من عودة الحوار بين الطرفين بعد أن توقف لأكثر من عامين.. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى هذا في (المشهد السياسي).. ومعه كانت الضغوط الخارجية والداخلية. فقد قال البروفيسور “غندور”: هناك ضغوط مورست على القطاع من حلفاء الحركة الثورية.
السؤال الذي يدور في الأذهان الآن هو (ماذا بعد..)؟! والرد عليه ربما جاء من الراعي الأفريقي السيد “أمبيكي” وهو المرجع والأساس في كل هذه العملية التفاوضية التي تحتاج إلى إعمال العقل والموضوعية من قطاع الشمال قبل غيره.. فهناك الكثير من المتغيرات التي يتعين أخذها في الاعتبار.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية