لحظة اعتراف..!!
يبدو لي أن المشكلة مرهونة بنا نحن وليس بغيرنا.. فنحن مندفعون في اتهام الآخرين وتحميلهم مسؤوليات الخطأ والفشل وربما الخراب الذي قد يحدث لحياتنا..!
لماذا لا نفكر في أنفسنا أولاً.. ونواجه ذواتنا في لحظة صفاء بالأسئلة الضرورية التي تبدأ بالاعتراف بالمشكلة ومن ثم تحديد مسؤوليتنا الكاملة أو الجزئية فيها؟!
فطالما نحن طرف في المشكلة فثمة مسؤولية ما لابد أن نقر بها، حيث الاعتراف بالخطأ هو أول خطوة صحيحة باتجاه العدول عنه..!
من السهل جداً أن نكذب على أنفسنا ونتوهم أننا بشر بلا أخطاء وأننا كل الحقيقة وغيرنا لا يعرفون عنها شيئاً. ومن المتيسر تماماً أن نبالغ أكثر فنتوهم صدقنا المطلق وكذب غيرنا المطلق.. وهنا فقط تكتمل الحلقة الفارغة لعدم الصدق مع أنفسنا..!
بعضنا يجيد فن الكذب على نفسه بحيث يدعي أمامها غير حقيقتها، وبعضنا يمكن أن يرتكب أخطاء وذنوباً عديدة فيحرك إصبعه وبسهولة إلى أقرب الأقربين إليه فيتهمه ويبرئ نفسه، وبعضنا ميال ومنحاز لأن يحيا في واقع لا يخصه وعالم لم يدخله من قبل.. هنا يأتي الإشكال الثاني المتمثل إلى جانب عدم الصدق مع النفس في عدم القناعة التي أصبحت في عرف البعض ضمن قائمة المثالب وليس الإيجابيات وأن من يتصفون بها هم من لا طموح لهم.. مجرد سذج وبسطاء لا مكان لهم في عالم متعولم لا يعترف إلا بالأقوياء والأثرياء..!
إن التغير لا يبدأ بالآخرين، وإنما بأنفسنا.. حيث المقولة الأصدق هنا: (نعيب زماننا والعيب فينا).. وحيث الرؤية الأصوب هنا مثلنا الدارج: (بيته من زجاج ويرمي بيوت الناس بالحجارة) أو (باب النجار مخلع).. ولا داعي لاجترار ذاكرة الأمثال الشعبية فهي أيضاً تحتاج إلى مراجعة، لكن التغبير الذي نبحث عنه والذي يبدأ من أنفسنا أحوج ما يكون للصدق.. هذه المفردة التي وبمرور الأزمنة استهلكت على نحو رديء واستثمرت لصالح الكذب أكثر من الصدق نفسه..!
لقد أصبحنا في هذا الزمن الرمادي مطالبين أن نقسم ثلاثاً معظمة كي يصدقنا الآخرون.. وأن نأتي بشهود عدول كي يأخذ بكلامنا الآخرون.. وأن نذرف دموع الضعف والمهانة كي يشفع لنا الآخرون.. لم يعد يكفي أن نتحدث بالصدق فقط كي يصدقونا.. وهم معذورون.. فالكذب يتفشى كالطاعون.. و(الكذب) الذي يسوق ويروج بألوان مختلفة منها الأسود والأبيض وغيرهما هو الكذب مهما اختلفت ألوانه.. وهو الوسيلة الأكثر سهولة في تضليل الآخرين وخداعهم وتعمية أبصارهم..!
كيف نعيد إذاً للصدق قوة مفردته ومنطقه؟ وكيف نجعل الآخرين يصدقون بعد أن أصبحوا يكذبون كل شيء ما لم يثبت العكس.. بل يكذبون كل شيء وإن ثبت لاحقاً صدقه؟! هل إلى هذا الحد بتنا نحيا في عالم مليء بالأكاذيب؟ ولماذا يتكاثر الكذابون ويجدون من يحتفون بهم ويرونهم أذكياء وشطار مقابل أغبياء وخائبين..؟؟
الأسئلة ستتوالى على نحو مزعج ومربك، لكن هذه المواجهة لابد منها كي نجد الشجاعة الكافية للاعتراف بحجم الأخطاء التي ظللنا نرتكبها ثم نخدع أنفسنا بأننا لم نرتكب شيئاً.. وأن المغفرة آتية حتماً لأننا بشر ولسنا ملائكة..!
لسنا بصدد خطاب سياسي يصلح أحوال الشعوب أو حتى أنظمتهم.. ولسنا بصدد محاضرة أخلاقية المؤكد أن غيرنا أكثر تأهيلاً في إرساء قواعدها ومنطقها.. ولسنا بصدد تضخيم قضية لا وجود لها.. فقط نحن نبحث عن إمكانية لأن يعود الصدق لظننا أن عودته ستعود معها الحياة بشكل خالٍ من العقد والمنقصات، وسيذهب الكثير من التعب والرهق الذي ظللنا نبذله كي يصدقنا الآخرون وكي تصبح (الثقة المتبادلة) ماركة مسجلة في التعامل اليومي.. وقبل ذلك لكي نعيد إلى ذواتنا التوازن النفسي والروحي المفقود بسبب الكم المهول من الكذب الذي نمارسه على أنفسنا قبل الآخرين.
لو صدقنا مع أنفسنا سنطفئ قسطاً وافراً من الجحيم الذي يحاصرنا.. ومن قال يوماً إن الجحيم هو الآخرون، يدعونا اليوم لنقول وبشكل واضح في ظل تفشي مسلسل الكذب (إن الجحيم هو نحن)..!