الديوان

«محمد وردي».. أعظم أسطورة غنائية على طول (النهر العظيم)

غرست ذات الحمل دبوساً على شعر رأسها حتى يكفيها شر طائر (البوم)، ثم صنع لها النساء طوقاً صغيراً من سيقان القمح والسعف الأخضر مع قليل من حبات الذرة وسبع بلحات وحبات (القرض).. الكحل والعطر وذلك من أجل إلقائه في النيل وإهدائه للملائكة، ثم تضرب الأم على الصحن النحاسي بالمكحل حتى يصدر رنيناً جميلاً بعد ذلك تشرع في إرضاع طفلها.
وسط هذه الطقس النوبي الروحي كان ميلاد “محمد عثمان صالح وردي”، الشهير بـ”محمد وردي” الذي ولد في 19 يوليو 1932م بأرض (المحس) بـ(جزيرة صواردة) وبعد (10) سنوات من ميقات ميلاده فقد والده فرباه عمه ليعيش فتياً قوياً مليئاً بالتعاويذ النوبية يحرك رأسه مع حفيف النخلات في الأعالي، وعند الأمسيات المقمرة يتبع النجمات أينما حلت، يصحو مع صوت الطيور التي تتبع مجرى النيل فيستيقظ مردداً خلفها الألحان الشجية.. ذاهباً بذهنه إلى حيث الحياة هناك في البعيد خارج أرض الشمال.. فرحل إلى مدينة “شندي” وعاد لمدينة “حلفا” لإكمال تعليمه بعد أن درس بـ(معهد تأهيل المعملين)، عمل بالمدارس الوسطى ثم الثانوية العليا.. تدرج “وردي” في مدارج الحياة إلى أن أصبح معلماً وزار العاصمة ممثلاً شمال السودان في مؤتمر تعليمي، بعدها انتقل للخرطوم مردداً الأغنيات العاطفية ومتأثراً بعمالقة الغناء “إبراهيم عوض” و”عثمان حسين” إلى أن دخل الإذاعة السودانية في العام 1957م لإجازة صوته ولم تتوقف مقدراته عند هذا الحد، بل تم تشكيل لجنة خاصة من كبار الفنانين كـ”حسن عطية” و”عبد العزيز داؤود” لتصدر قراراً بضم “وردي” إلى فناني الفئة الأولى كمغنٍ محترف.
الأغنيات النوبية
للغة النوبية سحر خاص يلسع سامعيها، فما بالنا إذا كانت وفق ألحان طروبة وإيقاعات تشعل قلوب سامعيها وتملأها طرباً لفنان يحمل الأشجان الشجية مزماراً، بل واستطاع أن يدخل الكثير من الأغنيات والألحان النوبية ليرددها معه الجميع حباً بحب دون أن يفطنوا لمعانيها، لذلك حاز فناننا على (لقب فنان أفريقيا الأول) بشعبيته غير المسبوقة في منطقة القرن الأفريقي خصوصاً “أثيوبيا”.
ملك العاشقين
أسكر “وردي” قلوب العاشقين وألهج ثناياها بـ(الحنينة السكرة)، (الحزن القديم)، (الهوى الأول)، (صدفة)، (أشوف في شخصك أحلامي). ثم أتت رائعة “الدوش” (بناديها بعزم كل زول يرتاح على ضحكة عيون فيها) ولـ”الحلنقي” (أعز الناس)، و”إبراهيم الرشيد” (سليم الذوق)، (حبيناك من قلوبنا)، (ما في داعي)، (كجراي) واتكأ على الموروث السوداني بـ(القمر البوبا) و(أقدلي).
“وردي” الفنان الثائر
فاقت مقدرات الفنان “محمد وردي” إطار عالمه ربما يعود ذلك إلى احتشاد القيم التي علقت فيه من أرض الشمال فنشأ ثورياً قوياً خصوصاً وأن الحركات الثورية والإشتراكية قد غزت العالم حينذاك، فكان انحيازه الفكري واضحاً من خلال أغنياته، فعبر بصدق عن قضاياه وهمومه خصوصاً وأن تهجير أهالي “حلفا” بسبب بناء السد العالي كان له بالغ الأثر في نفوس النوبيين، فكان “وردي” معارضاً للرئيس “عبود” ومناضلاً حتى أتت ثورة أكتوبر لتصبح (باسمك الأخضر يا أكتوبر) عود ثقاب الأفكار الثورية، وهدأت ثورته قليلاً مع الرئيس “نميري” أملاً في أن ينقشع الظلام.. لكن هيهات.!! فأبت روحه التواقة للنضال أن تنتظر كثيراً.. وسرعان ما عاد والتحم مع قضايا شعبه ليصبح مرتاداً دائماً للمعتقلات السياسية آنذاك، لذلك صُبغت أغنياته بالنفحة الثورية فجاءت (راية الاستقلال) “محجوب شريف” (يا شعباً لهبك ثوريتك) و(مساجينك) وأغنيات الحنين للوطن رائعة “صلاح أحمد إبراهيم” (بنحب من بلدنا ما بره البلد) و(الحبيب العائد).
وفي العام 1989م خرج من السودان ليعود بعد (13) عاماً في استقبال حاشد ضاقت به جنبات مطار الخرطوم عكس مدى حب السودانيين له ليمنح درجة الدكتوراة الفخرية من (جامعة الخرطوم) تقديراً لمسيرته التي تعدت الـ(60) عاماً ولإنتاجه ما يقارب (300) أغنية، ثم بعد ذلك احتفل بيوبيله الذهبي في العام 2010م، وفي يوم السبت 18 فبراير 2012م وفي تمام الساعة العاشرة والنصف مساءً ذهب عملاق الأغنية السودانية ملوحاً إشارات الرحيل بعد عمر ناهز الـ(81) عاماً ودفن بـ(مقابر فاروق) ليذهب حاملاً سر أكبر أسطورة غنائية على طول (نهر النيل العظيم).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية