نعم .. وجدناه إلا قليلاً..!
في المشهد السياسي الأخير (2/12) بعنوان (مخرجات شورى الوطني والتحديات) ختمنا القول بـ (ولكن تمنوا الخير تجدوه..) ولم يمر كبير وقت على ذلك حتى أطل الكثير من الخير على الساحة السياسية، وإن شابته بعض العثرات والشواهد غير السارة مما جعلنا نقول اليوم: (نعم.. وجدناه إلا قليلاً..) فما الذي وجدناه إذنْ.. وما هي العثرات التي أطلت؟
ولنبدأ القول في ما وجدناه بالوثبة التي طرحها الرئيس “البشير” في خطابه في السابع والعشرين من شهر يناير الماضي، وما أضاف له من إيجابيات في مجلس شورى الوطني الطارئ بعد ذلك. ففي ذلك السياق خرج علينا حزب الأمة القومي بقيادة زعيمه الإمام “الصادق المهدي” برأي حاسم وسديد هو:
– أن حزبه يرى أن الحوار هو الآلية الوحيدة للخروج من أزمة البلاد.
– وفي ضوء ذلك دعا الجميع أحزاباً وقوى مدنية للحوار دون أية شروط مسبقة.
وقد كان ذلك قراراً حاسماً وملزماً، حيث إنه حسم الجدل والخلاف داخل حزبه بإتباع القرار بلقاء مع الرئيس “البشير” وقيادات حزبه البارزة التي كان من بينها نائبه الأول السابق في الرئاسة الأستاذ “علي عثمان” ونائبه في الحزب يومئذ الدكتور “نافع علي نافع” والدكتور “الحاج آدم” الذي كان له حضوره في الحزب ورئاسة الجمهورية معاً.
ومن جانب حزب الأمة كانت هناك كل القيادات الملتزمة بالحوار الوطني وبتجاوز الحساسيات والبعيدة عن العنف السياسي وإثارة الأزمات. وهذا أيضاً شاهد صدق وموضوعية من جانب حزب الأمة القومي الذي لا يرى في أطروحات أحزاب تحالف قوى الإجماع الوطني غير العمل بأجندة وبرامج عمل لا تخرج البلاد من أزماتها..!
وهذا ليس بعيداً عن الواقع، لأن الحراك السياسي الإيجابي حول الحوار الوطني بلا شروط مسبقة قد انضم إليه حزبا المؤتمر الشعبي والإصلاح الآن.. فالأول – أي المؤتمر الشعبي – هو الذي ينتظر الآن لقاءه المكشوف والرسمي مع عدوه السابق (المؤتمر الوطني)..!
ورغم أن اللقاء بين “البشير” و”المهدي” قد كانت له أجندته ومخرجاته التي ترسم خريطة الطريق لحوار إيجابي ومنتج، ومنها تحديد مدى الحوار وزمنه قطعاً للشك باليقين، وهذا أيضاً ما خرجت به إفادات مسؤول سياسي في الحزب الوطني، حيث قال وبالحرف الواحد:
– الحوار ضرورة للتوصل إلى حلول جذرية للقضايا.
– وخطاب الرئيس لم يكن أجندة للحوار ولكنه جزء منها، وليس بشروط مسبقة أيضاً.. ودعوته للقوى السياسية وحاملي السلاح (جادة وصادقة) بغرض الوصول إلى حكومة قومية.
وقد يؤكد هذا من ناحية أخرى ما يجري من حوار وعمل من أجل ترسيم الحدود بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، وهو من المسائل العالقة في اتفاق نيفاشا يناير 2005م، رغم ما يجري هناك من عدم استقرار.. وغير ذلك كثير. إلا أن ما يشار إليه من الخير والسعد هو عودة المفاوضات بين الحكومة السودانية وقطاع الشمال في الحركة الشعبية، التي بدأت الأسبوع الماضي في أديس أبابا برعاية مجلس السلم والأمن الأفريقي، وهناك ما يشير إلى أنها تسير على الطريق الصحيح.
وللحقيقة قطاع الشمال برئاسة السيد “عرمان” ليس أمامه في الظرف الحالي، ودولة الجنوب والحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM تعانيان ما تعانيان، إلا أن يلجأ للحوار والتفاوض سبيلاً إلى الاستقرار وممارسة الدور السياسي السلمي، وقد ظهرت الدعوة للحوار الوطني كأداة لحسم الخلافات وقضايا البلاد وأزماتها.
هذه كلها، وإليها ما يضاف من إيجابيات أشهرها التنمية والمحاولات الإيجابية لبسط الأمن في دارفور، نقول إنها بعض مؤشرات وملامح للفأل الحسن.. وما تمنينا من خير لنجده كما سبق أن دعونا في المشهد السياسي السابق بالقول (تمنوا الخير تجدوه..!)
ومع هذا المؤشر الإيجابي الكبير الذي تطرقنا إليه كان عنوان (المشهد السياسي) اليوم وهو تحليل سياسي أسبوعي (نعم وجدناه.. إلا قليلاً..!)، وحان الآن التطرق إلى هذا القليل الذي لم يكن ضمن قائمة الفأل الحسن.. فهو من العثرات غير المرغوبات.
وفي هذا الشأن تأتي الإشارة والذكر إلى أمرين، أحدهما داخلي يتصل بالحراك السياسي وسوء تقدير الموقف والقرار السليم في الوقت السليم.. والآخر خارجي، أي ذو صلة بالعلاقات الخارجية التي هي في غاية الخصوصية.
داخلياً في شأن الحراك السياسي المشهود هذه الأيام نجد أن وقوف الحزب الشيوعي السوداني وملحقاته بعيداً عنه، هو سوء تقدير موقف وحسابات صحيحة ليس إلا.. فإذا كانت كبرى الأحزاب القومية – حزب الأمة والمؤتمر الشعبي والحزب الاتحادي (الأصل) – كلها قد اندرجت في الحوار الوطني وتخلت عن شروطها المسبقة، وإذا كانت (قطاع الشمال) سند الحزب الكبير في مواقعه المعلنة وغير ذلك هو الآن في حالة تفاوض مع النظام الحاكم.. وفي حالة عدم استقرار وعلاقة منتجه مع دولة جنوب السودان والحركة الشعبية الحزب الحاكم هناك.. ماذا بقي للحزب الشيوعي من دعم للبقاء خارج الحراك السياسي في الوقت الراهن؟ إن الأمر يحتاج إلى مراجعة وتقدير موقف.
شأن آخر داخلي، وإن كان خاصاً ومحدود الأثر إلى حد كبير، هو استقالة الفريق “محمد بشير سليمان” من حزب المؤتمر الوطني. وهي قرار سياسي جاء في غير وقته، فالرجل الذي كان له دوره المشهود في الجهازين التنفيذي والعسكري وعلى كل المستويات والمواقع، تبدو أسباب استقالته كما ذكرها في مؤتمره الصحفي غير مقنعة من حيث الزمان.. فقد جاءت استقالته متأخرة وربما في الوقت الخطأ كما ذكر أحد الكُتاب، ذلك أن الظرف ظرف (لم) صفوف وإعادة بناء، بيد أنه من حقه أن يتخذ قراره ويدفع توابعه الأدبية والسياسية.
أما في الشأن الخارجي فالمشهور والذي لابد من ذكره في هذا الخصوص هو الهجمة الإعلامية المصرية غير الموفقة على سفير جمهورية السودان في جمهورية مصر العربية، التي وضعت في فمه كلمات لم يقلها بشأن النظام الحاكم في مصر، نفاها السفير في حينها. فالسيد “كمال حسن علي” بخبرته الطويلة في الشأن المصري، وهو مسؤول حزبي ثم مسؤول دبلوماسي، هدفه الأول والأخير بناء العلاقات والاتصالات وإزالة الصعوبات والمشكلات التي تعترض ذلك الطريق.. ولعل ذلك ما يعرفه الكثيرون في مصر والسودان.
لكن (يا ما تحت السواهي دواهي)..! كما يقول الإخوة المصريون في ثقافتهم الشعبية.
السفير “كمال” أطيح به وحملوه ما لا يحتمل وما ليس له فيه يد.. كما يقولون، فما جرى في مصر بعد 30 يونيو شأن داخلي مصري محض، ومن ثم صار الموقف السوداني الرسمي فيه موقفاً محايداً لا يعنى إلا بالمصالح المشتركة بين البلدين وهي كثيرة وطويلة الأمد.
والحال كذلك، عاد السفير “كمال حسن علي” إلى بلده واحتل الموقع الذي يناسب خبرته وإخلاصه في السلك الدبلوماسي السوداني، فأصبح وزير دولة بوزارة الخارجية.
لقد كان ما فجع العلاقة بين البلدين من حدث.. أحد الأحداث غير الحسنة القليلة التي كان لا بد من الإشارة إليها في هذا التحليل السياسي اليوم.