الأطباء المسيحيون والحكام المسلمون
} ابن أبي أصيبعة: يعد كتاب “ابن أبي أصيبعة” (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، مرجعاً له قيمته، تابع فيه عيون الأنباء، وجاء بأخبار الأطباء الذين حظوا بمكانة رفيعة عند الحكام والخلفاء، حتى أنهم من ثقتهم فيهم كان يسمح لهم بمعالجة زوجات الخلفاء، وعندما كان الخلفاء يسافرون كان يسافر مع كل واحد طبيبه الخاص، فقد كان سلوكهم سلوكاً طاهراً.
وعندما شك الخليفة “المأمون” في “حنين بن إسحق” أنه ربما يكون متواطئاً مع حاكم الروم، ظل سنة كاملة لا يثق فيه، ثم أحضره إليه وأعطاه إقطاعاً قيمته خمسون ألف دينار، فشكره “حنين”، ثم طلب منه الخليفة أن يصف له دواء يقتل به عدوه، فرد عليه “حنين” قائلا: يا أمير المؤمنين إني لم أتعلم إلا الأدوية النافعة، وما علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحب أن أمضي وأتعلم فعلت ذلك. فقال: هذا شيء يطول. وأمر الخليفة بحبس “حنين”، ومكث في حبسه مدة سنة، بعدها أمر بإحضاره إليه، وقال الخليفة لـ “حنين” وأمامه سيف وأدوات تعذيب: لا بد مما قلته لك، فإن فعلت فقد فزت بهذا المال، وإن لم يكن قتلتك شر قتلة. وكان رد الطبيب: يا أمير المؤمنين، إني لم أحسن إلا الشيء النافع، ولم أتعلم غيره. فقال الخليفة: فإني أقتلك. قال “حنين”: لي رب يأخذ حقي غداً في الموقف الأعظم، فإن اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل. وهنا تبسم الخليفة وقال: يا “حنين” طب نفساً وثق بنا، فهذا الفعل كان منا لامتحانك. فما كان من “حنين” إلا أن قبل الأرض وشكر الله، فقال له الخليفة: يا “حنين” ما الذي منعك من الإجابة مع ما رأيته من صدق عزيمتنا في الحالين؟ فقال “حنين”: شيئان يا أمير المؤمنين. قال ما هما؟ قال: الدين والصناعة. قال فكيف؟ قال الدين يأمرنا بفعل الخير والجميل مع أعدائنا، فكيف بأصحابنا وأصدقائنا، والصناعة تمنعنا من الإضرار بأبناء الجنس لأنها موضوعة لنفعهم ومقصورة على مصالحهم، وقد جعل الله في رقاب الأطباء عهداً مؤكداً بأيمان مغلظة أن لا يعطوا دواء قاتلاً ولا مؤذياً، فلم أرَ أن أخالف هذين الأمرين من الشريعتين، ووطنت نفسي على القتل، فإن الله ما كان يضيع من بذل نفسه في طاعته، وكان يعطني الثواب. فقال الخليفة، إنهما شريعتان جليلتان، وأمر بالخلع، فخلعت عليه، وحمل المال بين يديه وخرج من عنده وهو أحسن الناس حالاً وجاهاً.
} مع الخلفاء: وكان الخلفاء والأمراء يأخذون الأطباء معهم في الحضر والسفر وهذه أمثلة لذلك:
– الطبيب “إبراهيم بن عيسى النصراني” سافر مع “أحمد بن طولون” سنة 872م.
– الطبيب “سعيد بن توفيل” كان في خدمة “ابن طولون” في السفر والحضر سنة 892م.
– سنة 828 عندما انطلق “المأمون” ليغزو الأرض البيزنطية أراد أن يصطحب معه طبيبه الهرم، ولكن الخليفة لما رأى ما عليه من الضعف، اكتفي باصطحاب ابنه “بختيشوع” .
– أسند معاوية إلي طبيبه “ابن آثال” جباية خراج حمص، وهي وظيفة مالية لم يسبق لنصراني مثله أن وصل إليها .
وكان الخلفاء ينصفون الأطباء ويقسطون إليهم ويحبونهم ويكرمونهم، فهو ذا الطبيب صاحب دار القوارير، وكان أحدهم قد استولى عليها، ولم يصل الأمر إلى الخليفة العباسي “المقتفي”.. وأتى الطبيب إلى مجلس الخليفة، وكان يجلس على كرسى لاعتلال صحته، وعندما هم بالقيام لم يقدر.. فقال له “المقتفي”: كبرت يا حكيم؟ فقال: نعم كبرت وتكسرت قواريري!! ففطن الخليفة أن في الأمر شيئاً، ثم علم بقصته، فأخذ دار القوارير من الوزير وردها إلى الطبيب وزاده إقطاعاً آخر، كما ذكر “القفطي” في أخبار العلماء بأخبار الحكماء، بيروت، دار الطباعة والنشر.
} أمّا الدكتور “ثابت بن قرة” وكان طبيباً للخليفة “المعتضد بالله” سنة 900م، فكان يتمشى كل يوم في بستان الخليفة، وذات مرة أتكأ الخليفة علي يد “ثابت” وهما يتماشيان، ثم نزع “المعتضد” يده من يد ثابت بشدة، ففزع “ثابت”، فإن “المعتضد” كان مهيبا جداً، وكان “المعتضد” قد شعر بأنه أخطأ، وقال له: لقد سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها، وليس هكذا يجب أن يكون فإن العلماء يَعلون ولا يُعلون. وكان معنى هذا أنه ليس من حق أحد أن يرتفع على العلماء حتى لو كان الخليفة نفسه.