وزير المالية الأسبق دكتور "التجاني الطيب" في مراجعات جريئة للوضع الاقتصادي (2-2)
ظل الاقتصاد السوداني في تراجع مستمر منذ انفصال الجنوب وخروج نسبة كبيرة من عائدات البترول من الموازنة العامة، ومما زاد الأمر تعقيداً عدم وجود رؤية أو خطة إسعافية تنقذ الاقتصاد من حالة الاحتضار بالرغم من اجتهاد بعض المختصين في وضع وصفات علاجية، بينما رأى آخرون أن ما أصاب الاقتصاد مرتبط بحالة البلاد السياسية التي انعكست بدورها على الاقتصاد، وربما أدركت الحكومة بدورها هذه الحقيقة عندما جعلت الاقتصاد أحد محاور الوثبة الأربعة.
كما حاولت الاستمرار في البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي الذي بحسب أحد المختصين ولد ميتاً، كما أن واقع الحال يدل على أن الحكومة كان أول من خرق هذا البرنامج حينما عجزت عن ضبط موضوع الإنفاق الحكومي معتمدة على موضوع رفع الدعم عن المحروقات دون غيره.
وزير المالية الأسبق دكتور “التجاني الطيب” شرح لنا في حوار جريء تفاصيل تعقيدات الوضع الاقتصادي في البلاد والمستقبل على ضوء المتغيرات المحلية والإقليمية. فإلى التفاصيل..
} من خلال حديثك فهمت أنه ما زال هناك تجنيب رغم الحديث عن محاربته؟
– التجنيب أنت تراه كظاهرة إذا ذهبت إلى أي مكتب من مكاتب الدولة.
} كيف يمكن معرفته على ضوء التعاملات المالية المعقدة؟
– مثلاً إذا تحدثنا عن ترخيص العربات، أنا ذهبت لترخيص عربتي طلعت بأربعة إيصالات ليس بينها إيصال واحد يعطيك مؤشراً على أنها ستذهب إلى وزارة المالية.
} إلى من ستذهب؟
– مثلاً الدفاع المدني يعطيك إيصالاً.. ناس التفتيش عندهم فورم التفتيش.. وهناك فورم الضرائب على العربة مقسم إلى قسمين (قسم عندو اسم والقسم الثاني بيذهب لوزارة المالية، يعني المالية عندها حاجة بسيطة).
} بالنسبة للاقتصاد الكلي كيف يمكننا معرفة التجنيب؟
– في الاقتصاد الكلي عشان تعرف التجنيب كيف يتم وشنو الأرقام التي يمكن الاعتماد عليها ويبدأ منها التجنيب، يمكنك أن تنظر إلى إيرادات دواوين الدولة.. مثلاً الكهرباء والمياه، إيراداتهما لا تدخل موازنة الدولة.
} ما الدليل على ذلك؟
– على الأقل الدولة وضعت في الموازنة أمامهم (صفراً)، ما يشير إلى أن هذا المرفق ليس جزءاً من إيرادات الدولة، وإذا عرفت ذلك يبقى السؤال أين تذهب هذه الأموال.
} برأيك أين تذهب؟
– واضح حسب ما نرى أن أية مؤسسة في الدولة فيها خِزن ويتم التعامل مع السوق بالنقد، وهذا الأسلوب يذكرني بتجربة العراق بعد الاحتلال عندما اختفت البنوك والمصارف وأصبح الناس يتعاملون بـ(الكراتين).. (عايز تبني مدرسة تعطي عدداً من الكراتين للمقاول)، وأتصور أن التعامل في السودان يتم بنفس الصورة ما يعني أن هناك كمية من النقد مخزنة في أماكن مختلفة سواء في دواوين الدولة أو خارجها، ومن هذا التخزين يتم الصرف.
} هل يمكن للمختص أن يتابع هذه العمليات التجنيبية؟
– نعم.. هناك حاجة اسمها المسح النقدي لبنك السودان، وفيه بند يسمى النقد خارج البنوك. هذا البند بلغ في نهاية 2013م حوالي (25) مليار جنيه خارج البنوك، وهذا مؤشر أولي لعملية التجنيب.. كيف تضع (25) ملياراً خارج البنك في بلد فيها (35) بنكاً؟ هذا كما ذكرت مؤشر أولي للتجنيب، ورأس خيط يمكن أن يمسكه الإنسان ويتابع خطوة خطوة، على أساس أن يأتي بعملية ملموسة.
} المسؤولون دائماً يطالبون بإثبات التجنيب والفساد؟
– نعم.. هم يطالبون بالدلائل، لكن مثلاً هناك أشخاص نجحوا أو لم ينجحوا في الشهادة السودانية تجد الواحد فيهم فجأة بنى عمارة وامتلك عدداً من السيارات، وضم جزءاً من شارع الأسفلت، وبعد ذلك كله الدولة لا تعدّ ذلك دليل فساد في الاقتصاد الكلي. هناك أشياء معينة يمكن أن يقرأها الشخص وتعطيه مؤشراً للتجنيب. كذلك في الاقتصاد النقد خارج البنوك يفترض أن يكون هناك بند توازني، عبارة عن (مبالغ بسيطة لا تضبط في الحسابات المالية)، لكن لا يمكن أن يكون (25) ملياراً.. هذا الرقم يساوي أكثر من نصف إيرادات الدولة المتوقعة للعام 2014م فكيف يكون أكثر من نصف إيرادات الدولة خارج البنوك؟ وأين توضع هذه الأموال؟ لا أتوقع أنها (حايمة ساي).. هذا واحد من المؤشرات التي تدل على وجود تجنيب وبكميات كبيرة جداً، ويمكن أن يكون أكثر من هذا الرقم.
} تقصد أن هذا المسح لا يعطي الرقم بدقة؟
– المسح النقدي قد تصاحبه بعض الفجوات الفنية، لذلك أقول هذا الرقم يمكن أن يكون أكثر من ذلك، فالتجنيب إذا الناس بحثوا يمكنهم الوصول إلى حقائق سواء بالظواهر أو الحقائق العملية، والمشكلة في كيفية تفهم الدولة واتخاذها للخطوات العملية.
} ماذا عن الفساد؟
– الفساد قانونياً، وحتى من الناحية الاقتصادية، من الصعب وجود بينات تدينه، فلما أنفق مالاً مع مقاول لتشييد مدرسة في النهاية لا يوجد ضابط مالي أو مصداقية مالية، لأنني أعطيه نقداً وأنا غير محاسب ولا يوجد من يراجع حساباتي، وأصلاً لا يوجد لديّ حساب.. الهنود عندهم قصة كثيراً ما يروونها ويقولون فيها: (التاجر الهندي يحتفظ بثلاثة دفاتر.. دفتر لناس الضرائب.. ودفتر لشريكه ودفتر لشخصه) والتجنيب كله دفتر لشخصك.
} يتحدث كثير من المختصين عن عدم دعم السدود التي أنشئت بالمليارات للدولة.. إلى أي مدى تتفق معهم؟
– إذا تحدثنا عن جانب التنمية القومية، نجد أن السدود والطاقة والنفط والمعادن والطرق والجسور والنقل تأخذ حوالي (80%) من كل إجمالي اعتمادات التنمية لعام 2014م في، وقت نجد فيه نصيب الزراعة (16%) وإذا أخذنا كل موازنات التنمية لعام 2014م حوالي (5.8) ملياراً، الزراعة نصيبها (920) مليوناً فقط في بلد تقريباً (60%) من سكانه يعتمدون على الزراعة.. كم من السكان يعتمدون على السدود والطاقة والنفط والمعادن؟ علماً بأن إيرادات هذه المرافق بالنسبة للدولة (صفر)، وإذا أخذنا التعليم والصحة نجد نصيبها في التنمية القومية كله (5.3)، في وقت أن نصيب القطاع السيادي حوالي (2%)، وهذا الوضع غاية في الشذوذ.
} ما الحل؟
– لابد من ترتيب الوضع الحكومي ووضع الأولويات والأسبقيات.. نحن في صرفنا، الأسبقيات كلها مقلوبة، يعني القطاعات المفروض نصرف عليها وهي التعليم والصحة والزراعة والصناعة لا نصرف عليها ولا خمس ما نصرفه على القطاعات الأخرى.
} تعني أنها غير مهمة؟
– لا أعني أنها غير مهمة، لكن القطاعات الأخرى أهم، لأنك إذا أردت أن تعمل نهضة أو تسد فجوة في الاقتصاد الكلي لابد أن تهتم بالزراعة والصناعة، ومن ثم بالتعليم والصحة، لأنه لا يوجد أهم من الغذاء والصحة بالنسبة للإنسان.. نحن أهملنا العقل والغذاء رغم أننا عقدنا مؤتمراً كبيراً جداً في الخرطوم صرفنا عليه ملايين الجنيهات بحجة أننا سلة غذاء العالم، في وقت لم نستطع فيه الإيفاء باحتياجات شعبنا المسكين.. نحن أولوياتنا مقلوبة، وهذا قد يكون جزءاً من الفساد. وأتصور أن الصرف على القطاعات التي قلت إنها غير مهمة، قد تكون مهمة لناس محددين لكن ما مهمة للمواطن البسيط، وبعد بناء السدود الآن هناك حديث عن بناء مطار جديد بحوالي (700) مليون دولار ومدينة سكنية على النيل الأبيض بحوالي (800) مليون، وكباري طائرة.. هذه المنشآت قد يشوبها الفساد لأنه يبدأ بهذه الأشياء.. لكن الزراعة ليس فيها فساد، فإذا أردنا بناء أمة وشعب واقتصاد فلابد من ترتيب أولوياتنا.
} هل استفدنا اقتصادياً من سد مروي؟
– سد مروي أغلق الملاحة بيننا وجمهورية مصر.. هل كان هذا القرار سليماً في وقت أصبح النقل النهري حتى في الدول الحديثة من أهم وسائل النقل؟ نحن دمرنا السكة الحديد واتجهنا نحو وسائل النقل المكلفة جداً للاقتصاد. والآن أصبحنا ندفع الثمن غالياً جداً لهذه الأخطاء، وحتى في مشروع الجزيرة أنهينا السكة الحديد التي لم تقتصر فوائدها على الجانب الاقتصادي فقط، فقد كانت تلعب دوراً اجتماعياً، حيث تقوم بترحيل الطلبة مجاناً.
} ما هي توقعاتك لفوائد سد الألفية بالنسبة للسودان؟
كل الدراسات التي اطلعت عليها عن سد الألفية، كانت غير مكتملة، ولا أعتقد هناك أهمية بهذا الحجم ولا يوجد سبب لبناء سد بهذا الحجم وتغيير مجرى نهر من أجل سد, وكما يقول المصريون أثيوبيا كان يمكنها بناء سد أقل حجماً ويؤدي نفس الغرض.. أعتقد أنه سيكون مكلفاً وسيخلق للسودان مشاكل في المستقبل، لأن السد قد يستغل لأسباب سياسية ويكون السودان أول المتضررين، فهناك نواقص في الدراسات التي تمت، هذا إضافة إلى البيئة والمشاكل الأخرى والرقعة الزراعية، لأن المناطق حول السد جبلية فأين ستزرع أثيوبيا؟ إلا في السودان، فالأهداف غير واضحة.. كان من الممكن أن يتفق الناس على أشياء محددة تفي بحاجة أثيوبيا وتحفظ لمصر والسودان حقوقهما.
} كثر الحديث عن الاستثمار.. ما هي المشاكل التي يعاني منها؟
– الاستثمار (ما قرض حسُن ولا صدقة ولا عمل خير)، ولكنه عملية ربحية، فالمستثمر يبحث عن المناخ الملائم الذي يمكن أن يستثمر فيه رأس ماله ويجني منه عائداً مجزياً.. بالنسبة للسودان كل المؤشرات الموجودة في الاقتصاد الكلي طاردة للاستثمار.
} فيما تتمثل؟
– بداية من التضخم والعجز المالي للدولة والتدهور في الكفاءات والخدمة وسعر الصرف، بجانب الجمارك والسياسات المتبعة نفسها.. المهم بالنسبة للمستثمر شيئان هما استقرار معدلات التضخم واستقرار واستمرار السياسات الاقتصادية، وهذان الشيئان غير متوفرين في السودان.. فمن الذي سيأتي ليستثمر أمواله هنا؟
} هل توجد أشياء عملية تدل على عدم توفرهما؟
– أعطيك مثالاً.. نحن رفعنا التكلفة عن طريق التضخم في الاقتصاد الكلي أو في الإنتاج بصورة عالية جداً، وبالتالي نفرّنا المنتج، فإذا كانت تكلفة العامل في السودان التي أصبحت مرتبطة بالظروف المعيشية تساوي حوالي (70) جنيهاً في اليوم أي ما يعادل عشرة دولارات، نجد تكلفة نفس العامل في أثيوبيا دولارين فقط.
} ما سبب هذه الفروقات؟
– لأن التضخم أقل بكثير جداً في أثيوبيا مقارنة بالسودان والوضع المالي أكثر راحة، ووضع النقد الأجنبي أفضل، والسياسات أكثر استقراراً، وهذه كلها مؤشرات.. هذا إذا نظرنا إلى العمالة فقط.
} وماذا هناك؟
– هناك البيئة التنافسية في مجال الاستثمار، التي نكاد أن نكون فقدناها، ولن نصل إليها إلاّ إذا عدنا بالاقتصاد إلى مرحلة الاستقرار والثبات في السياسات لفترات طويلة، حتى يستطيع المستثمر برمجة سياساته ويضمن أنه على ضوء الاستقرار يمكن أن يستثمر أمواله.
} رغم ذلك هناك استثمارات؟
– معظم الاستثمار الذي يأتي إلينا استثمار محموم كما يسميه أهل الاقتصاد، وهو أخطر أنواع الاستثمارات مثل (غسيل الأموال)، لأن المستثمر في هذه الحالة يأتينا ويخرج برأس ماله، لأنه وبمجرد أن يصل إلى أهدافه أو يشعر بأن الجو السياسي متقلب يخرج برأس ماله، وهذا هو المستثمر الذي لا نريده.
} ما هو سبب اتجاه الناس إلى الاستثمار في الخدمات؟
– قطاع الخدمات نما بصورة كبيرة جداً، لأن المستثمرين عازفون عن الدخول في الاستثمارات الحقيقية بمن فيهم الحكومة ذاتها.. إذا نظرنا إلى التنمية نجد أن ناتجها في 2008م كان يعادل (3%) من الناتج المحلي، وهبط إلى أقل من (1%) في العام 2013م.. نحن لا يوجد لدينا مناخ للاستثمار ولا قانون للاستثمار، والقانون الذي أجيز (ما فيه أي شيء).. عبارة عن سبع أو ثماني صفحات، تتحدث عن كيفية استفادة المستثمر من قطعة الأرض، لكن لا يحتوي على تفاصيل تفيده بأن يقرر استثمار أمواله في هذا البلد أم لا.
} هناك حديث عن زيادة رواتب الشرطة والأمن.. في أي سياق تقرأ ذلك؟
– الجرائد قالت هناك قرار لزيادة أجور الشرطة بثلاثة أضعاف، ولا أدري من أين سيأتون بذلك، لأنه حسب ميزانية 2014م الزيادة في بند الأجور (2%) فقط، فكيف الشرطة ستضاعف الأجور ثلاث مرات.. هذا يعني أن هناك صرفاً أو موارد من جهة ما.. وهنا لا أقول أن ناس الشرطة غير محقين في زيارة أجورهم، لكن السؤال من أين تأتي الموارد، ولماذا الشرطة وليس الجهات الأمنية الأخرى أو الدولة ككل.
} ربما هناك وفرة؟
– هذا جاء في وقت وصل فيه متوسط معدل التضخم إلى (37%) في العام، إذا أخذنا معدله في سبتمبر كذلك يبقى السؤال كيف في هذا الوقت تلجأ الحكومة إلى زيادة أجور علماً بأن غول السوق سيبتلعها وصاحب الدخل لن يستفيد منها. والتضخم محاربته قضية مركزية أولاً بالنسبة للاستقرار الاقتصادي، فلا يمكن أن نبدأ العلاج في جانب القطاعات الحقيقية لمعالجة مشكلة الفجوة، إلا إذا ثبتنا الاقتصاد بمعنى أن يتم تثبيت معدلات التضخم والنزول بها إلى معدل الرقم الأحادي، وهذا يتطلب عملية جراحية تبدأ فيها الدولة بنفسها على أساس أن خفض الإنفاق العام يمكن أن يتم بصورة سريعة، لكن معالجة القطاعات الحقيقية تحتاج إلى وقت لتنضج.
} لماذا؟
– لأن هذه استثمارات تحتاج إلى وقت وتمر عبر مراحل، إذا الدولة زادت إنفاقها في عامين فقط بمعدل (60%)، وهذا إنفاق جار لا علاقة له بالتنمية، ستكون مطالبة بتخفيض إنفاقها إلى (30%)، وبالتالي قد تنزل بمعدلات التضخم إلى النصف في عام واحد، وتبدأ كل عام في عملية تكييف الإنفاق، بجانب العمل على تحفيز الإنتاج على أساس أن يؤدي الاثنان إلى استقرار كامل، والعمل على تحفيز الإنتاج على أساس أن يؤدي في المدى المتوسط إلى استقرار كامل في الاقتصاد باختفاء الفجوة وانخفاض معدلات التضخم حتى يعود الاستقرار إلى الاقتصاد من خلال تشجيع الاستثمار وتحسين الظروف المعيشية.