شارع النيل.. قتل الوقت ووأد كثير من الأحلام والأوجاع!
انزلق قرص الشمس على استحياء إذاناً بدخول جحافل الظلام على شارع النيل أكبر شوارع العاصمة الخرطوم في الوقت الذي دبت فيه حركة نشطة جداً لبائعات المشروبات الساخنة وهن يعملن في حركة محمومة في (رص) الكراسي و(الترابيز) العتيقة والمهترئة الجوانب، يساندهن في ذلك عدد من الصبية الذين يستخدمون (الدرداقة) لنقل تلك الأدوات استعداداً لسهرة طويلة قد تمتد إلى ما بعد صلاة الفجر، ثم بدت أضواء كشافاته ذات الإضاءة المبهرة في نشر ضوئها القوي لتطرد في ثوانٍ قليلة ذرات الظلام السوداء التي نشرت رداءها القاتم على معالم الأشياء.. وخلال لحيظات قليلة بدأ شارع النيل في اجتذاب جحافل من الشباب الذين كانوا يردون إليه زرافات ووحدانا وكثيرون منهم يعرفون مقصدهم تماماً.. بعضهم يحمل (كوتشينة) مدسوسة بعناية على دفتر ضخم.. والبعض الآخر يخرجون من ملابسهم (دومينو)، وخلال لحظات قليلة كان الشارع الأشهر بالمدينة قد امتلأ عن آخره بحشود من الشباب من المراحل العمرية المختلفة الذين كانوا يبحثون عن قطع دابره في الألعاب الورقية المعروفة، أو أن بعضهم يمنون أنفسهم بتناسي كثير من مآسي الحياة ومنغصاتها.. وربما رأى بعضهم في إجادة تلك الألعاب تحقيق نصر ربما لم يستطيعوا تحقيقه في حياتهم العملية.
بين الحين والآخر ترتفع صيحات (جرة الخمسين) وهي تشق عنان السماء.. تتبعها لحظات فرح ونشوة عابرة لبعضهم بعد أن أجبر صديقاً له على تجرع ذلة (السيك) ولا يجد إزاء ذلك (المغلوب) بداً من (صم خشمو) في استكانة اعترافاً بهزيمته، فيما تظهر سيماء الفرح والنشوة على المنتصر الذي لا يتورع على الآتيان بكل صنوف الفرح الهستيري المشروع وغير ذلك.. وتستمر تلك الدورة ومئات المجموعات الشبابية تتسرب الساعات من بين يديها وهم غافلون أو متغافلون عن النظر إلى هواتفهم المحمولة لمعرفة كم مضى من الوقت وهم على نشوتهم في عوالهم الافتراضية انتصاراً وهزيمة فرحاً وترحاً.. وساعات الليل تمضي سريعة تجعلهم في خدر وقتي من همومهم وآلامهم وتنسيهم لساعات انكساراتهم في الحياة وفشلهم المطلق في الحصول على وظيفة مرموقة أو حتى غير مرموقة.. وتصلبت على أدمغتهم حجار صماء تحجب عنهم التبصر فيما سيؤول إليه مستقبلهم المعتم رغم أن سنوات عمر الكثيرين منهم تخبرهم بقسوة أن (لم يعد في العمر ما يكفي لبدايات جديدة).
صورة قاتمة
عند تخوم المساحة الشاسعة الممتدة ما بين كبري المنشية وبرج الاتصالات تراصت عشرات (الترابيز) التي اجتذبت حولها أيضاً عشرات الشباب الذين تخدرت حواسهم عن كل ما يحيط بهم سوى من أوراق اللعب التي كانت تتوزع على اللاعبين الأربعة فيما تحملق البقية على صدر (التربيزة) في انتظار دورهم.. وأمامهم تتراص كبابي عليها بقايا الشاي والقهوة والأوفلتين.. اقتربت من إحدى تلك المجموعات الشبابية وسحبت كرسياً بسرعة وجلست قبالتهم، وقتها رمقني بعضهم بنظرات مستنكرة كأنها تحوي سؤالاً حارقاً عن السبب الذي دعاني إلى اقتحام خصوصيتهم بهذه الطريقة (الفجة) فيما لم يلحظ بعضهم حتى وجودي لأنهم وقتها كانوا يصوبون أعينهم واهتمامهم تجاه (ورق الكوتشينة) الموزع أمامهم، لم أجعل الدهشة تأكلهم كثيراً فألقيت عليهم بتحية سريعة وعرفتهم بنفسي.. (أنا صحفي وعايز أدردش معاكم).. لا يبدو أن الإفصاح عن هويتي قد أثار لديهم كثير اهتمام فلوى بعضهم فمه بغير اكتراث، وأشاح أقربهم مني بوجهه مبتعداً ومباعداً ولكنني عاجلتهم بالقول: شباب أنا هنا عشان أعرف السبب الخلى الناس تهتم باللعب حتى وقت متأخر شنو..؟؟ وليه الموضوع ده بقى كتير في السنوات الأخيرة..؟؟ وبتساهروا لحدي ساعات الفجر الأولى..؟؟ ما في شغل ولا شنو؟؟) يبدو أن تتابع الأسئلة قد حفز بعضهم على إفراغ ما بجوفه من حنق على كثير من الأشياء التي حوله وتكفل شاب قال إن اسمه «سامي محمد سعيد» بقوله: (كويس أنا ح أديك (الزيت) أنا اسمي «سامي» أتخرجت قبل سبعة سنة من إدارة أعمال جامعة الخرطوم ولسه ما لاقي شغل.. الجنبي ده اسمو «محمود» أتخرج من تقنية معلومات قبل خمسة سنة وبرضو ما لاقي شغل.. الوراك ده اسمو «مهند» درس اقتصاد من زمن جامعة (جوبا) وهسه سائق ليهو أمجاد… أهو أحسن مننا شوية.. والقاعد في الطرف داك اسمو «هيثم» برضو أتخرج من جامعة شرق النيل قبل خمسة سنة برضو ولسه على باب الله.. نحن يا أخوي ما عاجبنا السهر ولا عاجبنا انو نقضي الليل كلو هنا بين تناول المكيفات ولعب الكوتشينة.. ولكن الظروف حارقة.. وما بنلقى أي حتة تاني نمشي ليها…اها قول إنت أحسن نلم خيباتنا ونقعد مع بعض ولا أحسن الواحد يقعد في البيت يندب حسرتو أو يلف في شوارع الحلة على غير هدى)، ثم صمت برهة لم تمتد طويلاً حتى استرسل قائلاً: (كل الناس القاعدين هنا ديل بيفتشوا لطريقة عشان يهاجروا بيها بس ماعندهم حتى حق تذكرة السفر للخارج.. واهو نحن بنفتش للشغل بالنهار وبنقضي الليل هنا طوال الأسبوع لحدي ما ربنا يقضي أمراً كان مفعولاً)، وعندما طلبت منه أن التقط لهم صورة فاجأني بقوله: (صورة شنو العايز تصورنا ليها.. هسه نحن اديناك صورة للواقع القاتم أنقلها صورة قلمية لو عايز)، ثم لاذ بصمت مطبق وأشاح بوجهه بعيداً ونهض من مكانه للجلوس على أحد الكراسي بعد أن حان دوره في اللعب.