حديث لا بدّ منه!!
} بتوفيق الله وعونه رأيت من الضرورة بمكان، بل الحتمية الملحة، أن أوثق لتجربتي النقابية، وذلك من خلال صحيفة (المجهر) التي رحب بي رئيس مجلس إدارتها الأستاذ “الهندي عز الدين” ورئيس تحريرها الأستاذ “صلاح حبيب”، فلهما من الشكر أجزله ومن الدعاء أشمله ومن الثناء أفضله.
} وأحسب أن التجربة لا تخلو من الإيجابيات والسلبيات، لأنه جهد بشري لا يخلو من الضعف والخلل. وعندما تنشر هذه التجربة من خلال هذه الصحيفة المتداخلة في الساحة السودانية وغيرها من عواصم البلدان العالمية، حيث أنها تبث عبر (النت)، قد تفيد هذه التجربة، خاصة العاملين في الحقل النقابي، لأن تجربتي النقابية اكتسبتها من بعد عون الله وفضله من أكبر نقابة في أفريقيا، بل أعرق نقابة، ألا وهي النقابة العامة لعمال السكة الحديد والنقل النهري والمرطبات. كان هذا اسمها إلى تاريخ الإضراب الشهير الذي كان في العام 1981م، أي في فترة حكم ثورة مايو بقيادة المشير الراحل “جعفر محمد نميري” طيب الله ثراه وقابله بالمغفرة والإحسان، حيث أن النقل النهري تم فصله وانعقدت له نقابة عامة، وكذلك فصلت مصلحة المرطبات، حيث أن الموانئ البحرية التي أصبحت نقابة عامة كانت كذلك جزءاً من النقابة العامة لعمال السكة الحديد. ولأن مرفق السكة الحديد كان في بدايته عسكرياً ويدار عسكرياً تحولت إلى مصلحة ثم إلى هيئة، وإلى هذه اللحظة هيئة السكة الحديد هي أقدم مرفق وطد للخدمة المدنية، وكان الأداء فيه – أي في هذا المرفق – منضبطاً، بدليل أن الساعات كانت تضبط على ساعة قيام القطار وحضوره.
} إذن يحق لنا أن نقول إن السكة الحديد هي أم الخدمة المدنية بالسودان، والسكة الحديد تمتد طولاً وعرضاً شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً.. تمتد في مساحة السودان كله بقدر يفوق خمسة آلاف كيلو قضيب حديد منتشر. وقد أسهمت السكة الحديد في نقل مدخلات الصناعة والتنمية الزراعية والتجارية وأنابيب النفط، وكانت هي الناقل الوطني الأول للركاب والبضاعة، وكانت تسير في الأسبوع نحو خمسين قطار ركاب من إكسبريس ومشترك ومخاصيص، أما نقل البضاعة فكان على رأس كل ساعة قطار من بورتسودان إلى الخرطوم، بمعدل (24) قطاراً في اليوم.
} السكة حديد كانت هي العمود الفقري للسودان وكانت بمثابة البقر الحلوب، حيث أنها مشروع اقتصادي وخدمي ناجح استطاع الاستعمار أو قل الغازي أن يحكم به البلاد فترة تزيد عن الخمسين عاماً حسوماً، حيث أنها كانت تنقل الصادر والوارد بكل أنواعه وأشكاله. وكانت كذلك حاملة المؤن للبلاد كالوقود والدقيق والسكر والزيوت والثروة الحيوانية والحبوب الزراعية بكل أقسامها، والقطن والصمغ العربي، والفاكهة. كل ذلك من مواقع الإنتاج، وكانت تمثل محطات السكة الحديد نوافذ اقتصادية ذات عائد وأثر على الفرد والأسر والعباد والبلاد.. يباع ويشترى فيها ما يحتاج إليه الناس.
} وكانت كل محطة بالسكة الحديد تتميز بشيء تنفرد به، حيث يجد المواطن حاجته التي يريد شراءها وهو مار بالقطار، فمثلاً بعض المحطات تشتهر بالمنسوجات والملبوسات كـ (الفراد) والشالات والطواقي، وبعضها بالرغيف الممتع والفول المتقن طهياً، وبعضها بالحطب، وبعضها بالفحم، وأخرى بالطلح، وبعضها بالمشروبات كالشاي والقهوة والروب، وبعضها بالأطعمة الممتازة والجاذبة، وبعضها بالدجاج وبيضه. ومنهم من يقول (دجاج) و(جنى دجاج) يقصد به البيض المسلوق أو النيء.
} وتجد التآلف داخل القطار بين الركاب، والتعارف الذي قد يكون سبباً في المصاهرة بينهم، وقد تحل فيه مشاكل كثيرة بين الأسر أثناء سير القطار من خلال الجودية بين الركاب.. والرحلات قد تمتد إلى ساعات طوال، ومنها ما يمتد إلى أيام كطريق حديد الدوران.
} وكانت السكة الحديد ذات أثر بالغ في حياة الناس، وأقول لا بديل للسكة الحديد إلا السكة الحديد.ط
} كانت هذه أهمية المرفق.. وكانت منه أهمية النقابة العامة لعمال السكة الحديد، وكان لها دورها الرائد والبطولي في كل مراحل وملاحم السودان، ولها وقفات ضد الغازي البغيض، ولها مواقف ضد كل أنظمة القهر والظلم والجبروت، وسوف أتابع بإذن الله وحوله وقوته – في هذه الإطار – دورنا النقابي في هذا المرفق الحيوي.. كيف كانت ثورة أبريل العمالية التصحيحية، وكيف كانت الاعتصامات.. ولماذا كونت لجنة المتابعة، وأين كانت تجتمع.. وحضور المسؤولين السياسيين في نظام مايو ووزير النقل الأستاذ “عبد الرحمن عبد الله” طيب الله ثراه.. والتآمر الذي حدث ومجيء النائب الأول آنذاك الأخ “أبو القاسم محمد إبراهيم” وأمين عام الاتحاد الاشتراكي.. أي الحزب الوحيد الحاكم، وغيره من المواقف التي حدثت متلاحقة.. هذا ما أبينه بإذن الله بطريقة راتبة بكل حيادية وواقعية وتجرد ومصداقية من خلال صحيفة (المجهر).
والله المستعان