رأي

آسٍ وأسى .. عندما يبكي الأطباء!!

} لعله لم يدر بخلد أبي الطيب المتنبئ وهو يشبّه ذلك الليث وكأنه (آس) أو طبيب يجس أو يعاين مريضاً.. لعله لم يدر أن ذلك الآسي في وقتنا الحالي وواقعنا الراهن أصبح يعاني الأمرين من ناحية توفير رعاية جيدة للمرضى وتقديم ما يلي المريض، باعتباره إنساناً قبل كل شيء، والارتقاء بهذه المهنة إلى مصاف الملائكية بعيداً عن شياطين وعفاريت وجنيات هذا الزمان!!
} ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل تستمر المعاناة للآسي في حياته العامة والخاصة والمهنية كذلك، وتحمل ضغوط الحياة المختلفة دون ضجر أو ملل أو الدعاء بالويل والثبور وعظائم الأمور، وغسل كل أدران ونكد العمل في محلها للعودة أكثر نشاطاً في اليوم التالي، وهذا في صبر وجلد، وما الصبر إلا عن عظيم المصيبة، وقد قال شاعرنا أيضاً:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى
عــدواً له مــا مــن صــداقته بـــد!!
وما أكثر هؤلاء الأصدقاء في هذه الأوقات!!
} وعلي الطبيب أن يتعايش مع تلك الذكريات والحالات والتماشي معها، والتفكر فيها ملياً واستيضاحها جلياً من أجل استشراف المستقبل والاستفادة من تجارب الماضي، في عملية عقلية وشعورية معقدة. وغالباً ما يؤدي الفشل في القيام بهذا الدور إلى بروز إشكالات جمّة تعرقل جودة الأداء والاستمتاع بالعمل وتقديم الخدمة الطبية على أكمل وجه وأتم صورة.
} ومن شاكلة ذلك حالة تلك المرأة في قسم النساء والتوليد، التي تحضر برفقة زوجها، بعد أن تم الاقتران والارتباط في سن ليست بالمبكرة ولا المتأخرة، ولكنها عوان بين ذلك، وقد تكون قد فشلت في الإنجاب سنين عددا، وسلقها الناس بألسنة غلاظ شداد بذلك السؤال المحرج: (أها لسه ما بقيتوا تلاتة)!! وكأنها تتوارى من التجمعات بحثاً عن ذلك الطفل الموعود ووريث العرش المنتظر، ويعييها البحث، وتطرق كل الأبواب بدءاً من أبواب العرافين والعرافات، وترى صورة طفلها الموعود تراقص أضواء الطرقات والسيارات، ولكن برغم ذلك تكون نتائج الفحوص غير مبشرة واحتمالات الإنجاب ضئيلة للغاية ما لم تكن معدومة، ويطرح الطبيب خيارات أخرى مثل التبني. وهنا يعتصرك الألم وأنت ترى تعبيرات وجهها حزناً لأنها لن تنجب بطرق أخرى، وتراها تتمالك نفسها وهي تستمع لذلك النقاش!!
وكم يكون الألم عظيماً عندما تحضر للمقابلات اللاحقة بمفردها، دون حضور زوجها (السابق) الذي تخبرك وهي تغالب الدموع بأنه: (شاف ليهو شوفة تانية) وقد تكون ثالثة أو رابعة أو ربما تزيد قليلاً!!
وما أن تخرج مساء يوم عطلة للتنزه برفقة أسرتك وأطفالك، حتى ترى صورة تلك المرأة وكأنها تلاعب طفلها القادم وتسمع صوت ضحكاتها بين أصوات أخرى في ذلك المتنزه، وكأنك بها وهي تطعم ابنها وجبة المساء أو تسقيه عصيراً لذيذاً أعدته له بكل عناية وحب ولهفة، وتلتفت وأنت تسمع طفلاً ينادي أمه: ( يا ماما).. وتتخيلها وهي تجيبه، وعندما تلتفت فعلاً لا ترى شيئاً سوى سراب بقيعة حسبته ماءً وما كان!!
} وليس ببعيد عن ذلك صورة ذلك الشاب الذي أصيب بأحد السرطانات الضارية السريعة الانتشار، التي تتسارع فيها الأيام وتتقاصر الساعات ما بين اكتشاف المرض وتشخيصه وما بين حدوث ما لا بد منه وما عناه من قال:
كل ابن انثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمــــول!!
وتكون معه في العنبر يوم (الخميس) في المرور وهو يخبرك عن خططه للمستقبل وآماله وطموحاته، وربما لو توثقت علاقتك به أكثر لأخبرك عن نيته في الارتباط بإحداهن بعد أن (يكون كويس)، ويوجه لك دعوة مقدماً باعتبارك من أول المدعوّين، وقد يخرج لك أو يريك صورة لزوجة المستقبل فترى فيها حسناء فارعة القد، طويلة المد، يديها كأنها السد، وعيناها كبارق الحد وأوصافها تعصى على العد!! وتتركه على تلكم الحالة، لتحضر بعدها عقب عطلة نهاية الأسبوع ولا تجده على فراشه ويخبرك المناوب بأن المريض قد (باسا) وتعني انتقاله إلى ملكوت الله، وبعدها تتجالد وأنت تقاوم دمعة حرى من أن تطفر وتسيل انهاراً وتنهمر انهماراً، ويجلجل صوت تلك الكلمات الأخيرة واللحظات الأخر في أذنيك وعينيك!!
} ولكم يكون الأسى عظيماً والتآسي أعظم في حالة ما إذا كنت مدعواً لحضور حفل زفاف أحد الأقارب أو الزملاء، وأنت تتجسد صورته وكأنه عريس تلك الليلة الليلاء وكأنه يمشي على ذلك البساط الأحمر باذخ الحسن بهي القسمات، وتكاد تمد يديك إليه مصافحاً وهو يرحب بك قائلاً: (شرفتنا يا دكتور!!).. يقولها لك وهو ينفض عنه الضريرة، مطالباً إياك بضرورة السلام على والدته، التي رأيتها أنت في وقت مضى وهي ترفع الأكف بالدعاء وهي تداعب بيديها الواهنتين حبات مسبحة طويلة وتهمهم بكلمات أو رقى وهي في العنبر أيام المرافقة، ولكن:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمــة لا تنفــع!
} وتتحول موسيقى الحفل وغناء المغني إلى لحن جنائزي حزين، تعود بعده للعمل وأنت على طاولتك ومكتبك مثقل النفس، متعب الروح في انتظار العريس القادم، الذي قد يتأخر في القدوم، ولكنهم مهما تأخروا فإنهم يأتون!!
} وهكذا دواليك.. بين قادم وآتٍ وسابق ولاحق، تمور المشاعر والأحاسيس في القلوب موراً، ويتداخل الفرح ما بين الزغاريد في غرفة الولادة بقدوم الوليد والحلوى ودموع الفرح، وما بين البكاء والعويل وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية بعد فشل العمليات الجراحية والخروج على المنسأة من غرف العناية القلبية والمركزة.
} وما بين الدخول والخروج والعودة والذهاب، تتماشى وتتمشى معك تلك الأطياف وتسمو بك تلك الصور لترتقي في سلم العلو وتسمو للملائكية، بعيداً عن جنيات هذا الوقت وشياطين وعفاريت هذه الأيام!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية