تقارير

أسباب ودواعي إسناد ملف مفاوضات دارفور إلى الجنرال «بكري حسن صالح»

{ وقف د. «جلال يوسف الدقير» الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي بعيداً عن حليفه السياسي وشريكه في السلطة المؤتمر الوطني، حتى بدا للمراقب أن الحزب الاتحادي الديمقراطي أقرب للمعارضة، وبعيد عن طائفة الختمية والأنصار، وقريب من يسار الوسط بلا هتافية علمانية أو ثيوقراطية باتت محل تندر من قطاعات مجتمعية عريضة.. صمت د. «جلال الدقير» طويلاً.. وصمت حزبه حتى بدا للمراقب السياسي أن الاتحادي تماهى في المؤتمر الوطني، وأصبح «ياسر يوسف» و»قبيس أحمد المصطفى» يعبران عن حزب لم تجد مواقفه التقدير الذي تستحقه، باعتباره أول كيان سياسي كسر احتكارية الإسلاميين للسلطة وحدهم، وسلمياً وعبر التفاوض استطاع الراحل «الشريف زين العابدين الهندي» إحداث ثقب صغير في جدار السلطة، ومن خلال ثقب (الإبرة) ولجت بعير المعارضة إلى ساحات التلاقي مع المؤتمر الوطني واحدة بعد الأخرى.. فما الذي دفع «جلال الدقير» الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي إلى الوقوف في فصل الشتاء السياسي الذي هبت نسائمه هذه الأيام، بعيداً عن حليفه وشريكه المؤتمر الوطني؟؟
إن التطورات السياسية التي شهدتها الساحة السياسية بعد خطاب «البشير» ودعوته لحوار بين مكونات الساحة السياسية السلمية وحاملي السلاح من قوى المعارضة، بثت الحيوية في أوصال القوى الحزبية، وبعثت البعض من (مراقد) طال زمانهم في أحضانها.. ولاحت في الأفق بوادر تحالفات سياسية جديدة، ربما أعادت إلى الأذهان تحالف «الصادق» و»الترابي» عام 1967م، الذي عُرف بتحالف القوى الجديدة مع بعض الأحزاب والكيانات الجنوبية، وذهبت بعض التفسيرات إلى الاعتقاد بأن ثمة اصطفافاً إسلامياً بدأ يتشكل من السيدين «الصادق» و»الميرغني» وثالثهما «الترابي».. أما رابعهم فهو المؤتمر الوطني، الذي في بعض الأحيان يبدو كـ(قاطرة) تجر من خلفها أحزاب ارتضت بالغنائم الصغيرة، وتخلت عن إرثها وتاريخها وتطلعها للمستقبل القادم.. ذلك هو الاعتقاد السائد في أوساطنا السياسية، والأشياء بطبيعة الحال بأضدادها تعرف.. والحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة د. «جلال الدقير» وثلة من رموز الاتحاديين خرج (للناس كل الناس) على قول «البشير» في خطابه (العسير)، خرج يوم (الثلاثاء) الماضي ليتحدث عن قضايا الواقع الراهن بلغة رصينة، أعادت إلى الأذهان صورة عن بلاغة «زروق» وأدب «الشريف زين العابدين». وجمع د. «جلال الدقير» حشداً ضاقت به قاعة المؤتمرات بالمركز القومي للإنتاج الإعلامي.. طغت على الحضور الفئات العمرية دون الأربعين عاماً، ليبدو الحزب الاتحادي الديمقراطي أكثر شباباً مما يعتقد الكثيرون.. وقيادات وسيطة تمثل مكاتب الحزب في ولاية الخرطوم، عطفاً على قيادات الاتحادي في الحكومة المركزية والولائية، ورؤساء تحرير صحف، وكتّاب وصحافيين، هرعوا للإصغاء إلى دكتور «جلال الدقير»، الذي تحدث عن الديمقراطية كقيمة حضارية لن يتخلى عنها الشعب السوداني، وفي طليعته حزبه، الذي يمثل التيار النخبوي في مؤتمر الخريجين، والصفوة السياسية غير المرتبطة بالطائفة الختمية.. وعدّ مبادرة «الشريف زين العابدين الهندي» في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي بمثابة الخطوة الأولى نحو استعادة الديمقراطية من حكم العسكر، من خلال التغيير الذي سعى إليه الحزب الاتحادي الديمقراطي منذ زمان بعيد، وقال إن للتغيير طريقين، أولاً التغيير عبر الإصلاح السلس ومن خلال التراضي بين القوى السياسية، والتغيير من خلال الثورة لاجتثاث ما هو قائم.. وكان خيار الحزب التغيير بالإصلاح، ليبقى الحزب سنوات خارج أسوار الحكم رغم الاتفاق الذي وقعه مع العصبة المتنفذة في الحكم حينذاك!!
وعدّ د. «جلال الدقير» خطاب الرئيس «عمر البشير» الأخير موضوعياً، وينبغي تعزيز فرص بلوغ الغايات التي دعا إليها بالحوار وتقديم الأحزاب لرؤاها حول السلام والانتخابات والحريات العامة.. ووقف د. «جلال يوسف الدقير» وحزبه الاتحادي الديمقراطي مع حرية الصحافة والتعبير، داعياً إلى رفع القيود التي فرضت عليها من قبل السلطة كخطوة مهمة قبل بدء الحوار السياسي.. وموقف الحزب الاتحادي من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة، أعاده إلى الملعب السياسي كورقة مهمة في الساحة السياسية في مقبل الأيام.. والحشد النوعي الذي شهدته قاعة الشهيد الزبير (الثلاثاء) الماضي، يثبت أن حزب «الشريف زين العابدين» يتنفس طبيعياً، وله قدرة على منافسة، ليس الحزب الاتحادي الأصل بزعامة الميرغني، بل منافسة المؤتمر الوطني وحزب الأمة.. ولكن كيف له خوض الانتخابات؟
يستطيع الحزب الاتحادي الديمقراطي ولوج الساحة السياسية وفضائها بالقيادات التي تقوده حالياً، ولكن هل يتحلى بالشجاعة لاتخاذ مثل هذه الخطوة؟؟ وقد بدأت القيادية «إشراقة سيد محمود» والدكتور «أحمد بلال عثمان» نشاطاً واسعاً في ولايات كردفان، ولكنه في دائرة الصمت بعيداً عن الإعلام، ربما احتراماً وتأدباً أمام حليفهم المؤتمر الوطني، ولكن الحليف بالطبع لا يملك الساحة السياسية، ولا الساحة مسجلة باسمه حتى ينشط الآخرون في استحياء وأدب!! وإذا ما أقبل د. «جلال الدقير» برؤيته التي قدمها الأسبوع الماضي للرأي العام، فإن الساحة ستشهد ميلاد حزب اتحادي ديمقراطي جديد بلا مرجعية طائفية، وبقيادات واقعية استفادت من وجودها في السلطة بالتواصل اجتماعياً مع قطاعات عريضة من الشعب.. وقد أثبت قيادات الاتحادي بزعامة «الدقير» نزاهة وحسن سيرة وسلوك في المال العام، بل إن السيدة «إشراقة سيد محمود» قد واجهت (أوكار) الفساد في وزارة العدل بصرامة وشراسة، وكسبت معركتها حينما ظن الكثيرون أنها تخوض معركة خاسرة.
} الفريق «بكري» والصعود إلى أعلى
{ أهم قرار اتخذه الرئيس «عمر البشير» خلال الأسبوع المنصرم، ولم يجد حظه من القراءة السياسية، هو إسناد مهمة التفاوض مع حاملي السلاح إلى نائبه الأول الفريق «بكري حسن صالح» ليقود التفاوض مع متمردي دارفور، وإسناد ملف التفاوض مع متمردي الحركة الشعبية في المنطقتين إلى البروفيسور «إبراهيم غندور» مساعد الرئيس الأول في القصر الرئاسي.. وجاء اختيار الفريق «بكري حسن صالح» لقيادة ملف التفاوض (الدارفوري) إثر مبادرات عديدة طرحت خلال الفترة الماضية، وكسرت جدار العزلة بين الحكومة والحركات الرافضة لاتفاق الدوحة.. وأهم مبادرة في الساحة هي مبادرة (ملتقى أم جرس).. وأهمية هذه المبادرة أن القوى الرئيسية في دارفور التي احتضنت التمرد وتماهت معه وساندته، وخرج التمرد من (أفخاذها)، ألا وهي قبيلة الزغاوة، قد قررت وحدها بمبادرة قادها الوزير «محمد بشارة دوسة» ورجل الأعمال «حسن برقو» ود. «التجاني مصطفى» وآخرون من قيادات القبيلة، قررت ضرورة أن يتحدث الصامتون ويقولوا كلمتهم جهراً وتحديد موقفهم من الحرب.. فكان (لقاء أم جرس)، الذي خاطبه الرئيس «إدريس دبي» ووجد المساندة والدعم من الرئيس «البشير»، وأحدث اختراقاً حقيقياً بلقاء قيادات الزغاوة بالمتمردين في أديس أبابا ثم كمبالا.. وفي ذات الوقت، كان لنشاط رجل الأعمال «صديق ودعة»، بصفته الشخصية وبإمكانياته الذاتية تحت غطاء لجنة الاتصال بالحركات المسلحة، دور في كسر جمود التفاوض، وفتح أبواب الأمل لإمكانية توقيع اتفاق جديد مع الحركات غير الموقعة على وثيقة الدوحة.. وفي الأسبوع الماضي، قاد الوزير «محمد بشارة دوسة» جهوداً لتوحيد كل المبادرات الدارفورية حتى لا تتبعثر الجهود بين المبادرات.. ووحد «دوسة» رؤية أهل دارفور في صمت وبعيداً عن الأضواء والمزايدات السياسية.. وشجعت جهود حفيد سلطان الزغاوة الرئيس لاتخاذ قرار مهم جداً، أسند بموجبه مهمة التفاوض مع الحركات الدارفورية إلى النائب الأول للرئيس، حيث ظل ملف دارفور منذ نشوب الأزمة عام 2003م في أيدي مستشاري الرئيس ومبعوثين عنه، وتنقل ما بين أيدي «الشريف أحمد عمر بدر» والدكتور «مجذوب الخليفة» والوزير برئاسة الجمهورية د. «أمين حسن عمر» من خلال ما يعرف بمكتب متابعة سلام دارفور.. ولكن أن يتولى ملف دارفور الرجل الثاني في الدولة والحزب، فذلك تطور جديد جدير بالتأمل وقراءة ما وراء الخطوة، وما يمكن أن تفضي إليه.. والفريق «بكري حسن صالح» في أول إطلالة له عبر أجهزة الإعلام، تحدث للصحافيين ورؤساء التحرير قائلاً إن السلام أولوية قصوى بالنسبة للحكومة، وإذا كان القتال من أجل رد المعتدي فإن السلام عبر التفاوض هو الأصل، وإذا حاربنا ثلاثين عاماً فلابد من التفاوض من أجل السلام.. فلماذا نهدر الوقت في الحرب إذا كان السلام يأتي من خلال التفاوض؟؟ تلك قناعات الرجل الثاني في الدولة والساعد الأيمن للرئيس «البشير» وأكثر القيادات وفاءً للرئيس.
إن إسناد ملف دارفور إلى الجنرال «بكري حسن صالح» من شأنه إحداث اختراق حقيقي في هذا الملف، الذي تعثر بسبب ضعف الاهتمام به، و(المرارات) التي ضيعت علاقة المؤتمر الوطني بفرقائه من المؤتمر الشعبي وحركة العدل والمساواة التي خرجت من رحم التيار الإسلامي الوطني والشعبي عندما كانا موحدين.. ولا ينظر المتمردون للعسكريين الإسلاميين بعين الريبة والشكوك التي ينظرون بها لإخوانهم المدنيين.. وشخصية الفريق «بكري حسن صالح» (المتصالحة) مع الآخر، واتفاق السودانيين بأنه رجل (يشبههم) ويعبر عنهم في أحاديثه على قلتها، تجعله أكثر تأهيلاً من غيره لقيادة ملف التفاوض الدارفوري.. ولـ»بكري حسن صالح» تجربة في جبال النوبة، جعلته (محبوباً) جداً وسط قبائل النوبة والبقارة لحميمية طريقته في التعامل مع الناس.. ويملك الرجل خبرة مكتسبة من خلال ملفات السلام السابقة أثناء التفاوض مع متمردي الحركة الشعبية قبل عام 2005م، حيث كانت عمليات التفاوض تشرف عليها اللجنة العليا للسلام برئاسة الرئيس، و»بكري» كان عضواً فاعلاً في اللجنة، عطفاً على دوره في اتفاقية السلام، واتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية، وكان حينها وزيراً للدفاع.. وإسناد ملف التفاوض إلى شخص بهذه الأهمية في النظام وبقدرات سياسية ونفوذ واسع في الدولة كصانع قرار ثانٍ بعد الرئيس، ربما أحدث اختراقاً حقيقياً ينهي حقبة الحرب في دارفور، حيث تجد جهود التسوية دعماً من القوى الاجتماعية التي قاد أبناؤها الحركات المسلحة.. ورفع المؤتمر الوطني الفريق «بكري حسن صالح» في هيكله القيادي الأعلى في مقعد الأستاذ «علي عثمان محمد» ليتولى مهام عضو بالمكتب القيادي قبل اعتماده في مقبل الأيام كنائب أول لرئيس الحزب للشؤون التنفيذية.. أما ملف التفاوض مع متمردي قطاع الشمال، فقد تم الإبقاء على البروفيسور «إبراهيم غندور»، وأعلنت الوساطة عن جولة جديدة من التفاوض (الخميس) القادم، وذلك بعد تسعة أشهر من آخر تفاوض للحكومة مع متمردي قطاع الشمال، وربما أحدثت المفاوضات القادمة اختراقاً محدوداً على صعيد الاتفاق على جدول التفاوض.. والحكومة إذا ما أعلنت قبولها بمرجعية اتفاق أديس أبابا الشهير باتفاق (نافع- عقار) لكانت وضعت الحركة المتمردة في حرج بالغ جداً، وكسبت ما يسمى بالمجتمع الدولي. وقد كشف د. «حسين كرشوم» القيادي البارز في المؤتمر الوطني والخبير في قضايا المنطقتين في حديثه لـ(المجهر السياسي) الخميس الماضي، عن كثير مما كان مسكوتاً عنه، وقال «كرشوم» إن تفاهمات قد تم التوصل إليها مع بعض قادة قطاع الشمال من أبناء جنوب كردفان والنيل الأزرق بشأن العملية السلمية واستعداد قطاع الشمال لوقف إطلاق النار، وقال إن معلومات مؤكدة قد وردت إليهم باستعداد قطاع الشمال لوقف إطلاق النار لبدء التفاوض على أرضية مشتركة في جولة التفاوض المقررة في الأسبوع الجاري وتستمر لمدة (3) أيام، لافتاً إلى أن الجلوس على طاولة التفاوض ينظر إليه باعتباره المحصلة النهائية، واستطرد قائلاً: (لكن التفاوض الحقيقي يتم خارج طاولة التفاوض).. العبارة بين القوسين التي وردت في تصريحات «كرشوم» وهو ضابط متقاعد من جهاز الأمن والمخابرات برتبة اللواء، ربما قصد بها ما جرى من تفاوض بين وزير خارجية النرويج ووزير الخارجية السوداني «علي كرتي»، حيث عادت النرويج مرة أخرى إلى طرح مبادرتها بشأن السلام في السودان.. واللافت في تصريحات الحكومة السودانية وقادتها، التخلي عن الشروط المسبقة التي كانت تضعها قبل كل جولة مفاوضات كاشتراط التفاوض مع أبناء النوبة فقط، والإصرار على إبعاد «ياسر عرمان» عن المفاوضات، رغم أن الحكومة تدخل الجولة القادمة من التفاوض ووضعها على الميدان أفضل من قطاع الشمال، بل نجحت القوات المسلحة من خلال عمليات الصيف في كسر عنق التمرد والقضاء عليه في مناطق واسعة من جنوب كردفان.. وساهمت قوات التدخل السريع في هزيمة المتمردين في المناطق الغربية من الولاية وتأمين المدن، وأدت دوراً مهماً جداً في عمليات الصيف رغم بعض السلبيات التي حدثت في الأبيض وأبي زبد والدبيبات، لكن الحقيقة كان لقوات التدخل السريع الأثر في كسر شوكة التمرد بجبال النوبة.. والمفاوضات التي تبدأ هذا الأسبوع في أديس أبابا أهم أسباب نجاحها إسناد الملف التفاوضي إلى رجل صانع قرار مثل البروفيسور «غندور».. وهذه إشارة إيجابية، وهو رجل واقعي جداً.. وبالضرورة يرتقي التمرد إلى مستوى المسؤولية، ويتم ترفيع وفد التفاوض، ليقود «عبد العزيز الحلو» أو «مالك عقار» المفاوضات بنفسيهما بدلاً عن صغار الضباط من منسوبي الحركة الشعبية للتوصل إلى اتفاق ينهي النزاع الذي تطاول جداً وترتبت عليه آثار سالبة على المنطقتين!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية