رأي

دعوة لقراءة «نزار قباني» مرة أخرى

شكراً جميلاً للزميل “عبد الرحمن أحمدون” الذي حرضني على الكتابة في هذه المساحة، عن شاعر شغل الدنيا عبر عقود من الزمان ولا زال يشغل ساحة الأدب والثقافة، لا سيما مضمار الشعر. ومخطيء أي شاعر معاصر إن قال إنه لم يتأثر بشكل أو آخر بشعر “نزار”.. سئل “نزار” في مقابلة صحفية : لماذا هو الأشهر ولماذا تنفذ دواوينه من الأسواق بمجرد نشرها لا سيما الشباب من كافة الدول العربية والمرأة على وجه الخصوص؟ رد “نزار”: ببساطة لأني ألتقط قصائدي من أفواه الناس حينما أكون في لب معاناتهم ثم أعيد إليهم كلامهم بعد أن أضمخه بعطري، وأنظمه شعراً بسيطاً سهلاً يقرأه ويفهمه كل الناس. ومشروع “نزار” الثقافي امتد لأكثر من نصف قرن من الزمان، مسجلاً حضوراً واضحاً ومؤثراً في الساحة العربية الثقافية والاجتماعية والسياسية. ويقول عن اللغة: (كانت لغة الشعر متعالية بيروقراطية.. بروتوكولية لا تصافح الناس إلا بالقفازات، وكل ما فعلته أنني أقنعت الشعر أن يتخلى عن ارستقراطيته، ويلبس القمصان الضيقة المشجرة.. وينزل إلى الشارع ليلعب مع أولاد الحارة، ويضحك معهم ويبكي معهم.. وبكلمة واحدة رفعت الكلفة بيني وبين لغة (لسان العرب) و(القاموس المحيط) وأقنعتها أن تجلس مع الناس في المقاهي والحدائق العامة وتصادق الأطفال والتلاميذ والعمال والفلاحين، وتقرأ الصحف اليومية حتى لا تنسى الكلام ). وبقوله هذا أصاب كبد الحقيقة فهم المبدع أن يعرض إبداعه للمتلقي وأن يجد ذلك الإبداع القبول من المتلقين.. و”نزار” منذ بداياته اعتمد على لغة ثالثة بعد أن طوف في عوالم الشعر الكلاسيكي القديم الذي يعتمد على عمود الشعر ببحوره السبعة القديمة، وكتب شعراً مبكراً نسجه في منسج المدرسة التقليدية غير أنه أدرك منذ وقت مبكر أن ذلك الشكل لا يناسب تجربته ولا عصره. ووقف أيضاً على تجربة الشعر الحديث الذي كسر عمود الشعر واحتفى بموسيقاه الداخلية، ويؤرخ النقاد لتلك المرحلة والتي بدأت في بدايات خمسينيات القرن الماضي، حينما نشدت الشاعرة العراقية “نازك الملائكة” قصيدة (الحمى) وقصائد أخرى ونشر (بدر شاكر السياب) (المومس العمياء) وقصائده اللاحقة. فالشاهد أن “نزار” برغم معاصرته لـ”نازك” و”بدر” إلا أنه لم يسر في ذلك الطريق، فاختار طريقاً ثالثاً شرحه بحديثه الذي أوردنا في هذا المقال.. فاحتفى بعمود الشعر واحتفى بالشعر الحديث المتمرد على عمود الشعر، واستطاع أن يختط طريقاً نزارياً ثالثاً واءم بين كل تلك المدارس وأول قصيدة نظمها وعمره (16) عاماً سنة 1939م وهو طالب يدرس القانون وعنوان القصيدة (خبز وحشيش وقمر) أثارت جدلاً عنيفاً لنقده للمجتمع العربي في ذلك الحين، للدرجة التي طالب بعض النقاد بقطع رأس “نزار” ويومها لم يبلغ العشرين من عمره . و”نزار” ولد في “دمشق” عام 1923م تخرج في كلية القانون في العام 1945م وأشهر قصائده (هوامش على دفتر النكسة)1967م تناول فيها حرب حزيران وهزيمة العرب على أيدي إسرائيل. وقبلها ديوانه (حبيبتي) الصادر في 1961م و(الرسم بالكلمات) في 1966م، (قصائد حب عربية) عام 1993م، تزوج مرتين، الأولى من ابنة عمه “زهراء آقبيب” أنجب منها “هدباء وتوفيق” والثانية عراقية هي “بلقيس الراوي” أنجب منها “عمرو وزينب” قتلت ببيروت عام1982م، في انفجار السفارة العراقية. وافته المنية في “لندن” يوم 30/4/1982م عن عمر يناهز (75) عاماً أنفق منها نصف عمره في الحب والسياسة والثورة.
سقت كل تلك المعلومات لأجيالنا الشابة التي تعشق الشعر محرضاً إياهم على الوقوف على آثار “نزار” الشعرية، لأنني استقيت من تجربته الثرة منذ بداياتي الأولى في كتابتي للشعر شكلاً ومضموناً. ولعل قصيدته في رثاء زوجته “بلقيس” تعد خلاصة تجربته الوجدانية الشعرية الإنسانية العاطفية:
شكراً لكم
شكراً لكم
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصديتي اغتيلت
وهل من أمة في الأرض
إلا نحن تغتال القصيدة؟
مفتاح الموسيقى ينساب من قافيته الأنيقة التي تضج بالموسيقى في عبارتي “الشهيدة والقصيدة”. الكلمتان كانتا محور ارتكاز الموسيقى والقصيدة. أدخلوا (النت) أو المجموعة الكاملة لنزار لتحلقوا في عوالمه الشعرية والفكرية المعاصرة، فهي ليست مرثية فقط بل دراسة نقدية لواقع السياسة والاحتراب في الساحة العربية
يقول في نفس القصيدة:
سأقول في التحقيق
إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل
وأقول في التحقيق
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول..
وهو نفسه القائل عام 1967م في حرب النكسة:
خلاصة القضية.. توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية..
وأيضاً في نفس (هوامش على دفتر النكسة) يقول:
بالناي والمزمار..
لا يحدث انتصار..
ويقول في مرثيته لابنه “توفيق” الذي مات بالقلب وكان على وشك التخرج في كلية الطب بالقاهرة، مات بين يديه وهو في مستشفى بمدينة “لندن”:
لأي سماء نمد يدينا
ولا أحد في شوارع “لندن” يبكي علينا
يهاجمنا الموت من كل صوب
ويقطعنا مثل صفصافتين
فأذكر حين أراك عليا
وتذكر حين تراني الحسين..
واتفق وأشكر زميلي “عبد الرحمن أحمدون” حينما قال: إن الكلمة الشعرية أو الروائية قد لا تدلل على معنى مباشر محدد، وهي قد تسوقك إلى معاني متعددة وقد يفهم النص الأدبي بأكثر من معنى ولعل سحر الإبداع يكمن في ذلك المخبوء في سياق النص الشعري أو الروائي أو اللوحة الخ .
والقائلون ذماً لـ”نزار” في قصائده التي نظمها يحكى فيها حال المرأة العربية أقول لهم لا تظلموه، بل اقرأوا قصائده مرة أخرى عندها ستجدونه لسان حال واقع حقيقي معاش.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية