الحكومة وقطاع الشمال .. خيارات الحرب والسلام!!
مساء الأمس (الأحد) هو الموعد المضروب للاجتماع الأول للجنة الحكومية للتفاوض بشأن منطقتي جنوب كردفان (جبال النوبة) وجنوب النيل الأزرق، واستدعى رئيس اللجنة مساعد رئيس الجمهورية نائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب البروفيسور «إبراهيم غندور» أعضاء اللجنة للاجتماع. وحسبما علمت (المجهر) فإن الاجتماع مخصص للتداول بين أعضاء اللجنة ورئيسها حول الخيارات المطروحة للتفاوض المرتقب بين الحكومة وقطاع الشمال، بعد تأجيل المفاوضات عدة مرات في الفترة الماضية، وكان آخرها أن أُجلت حتى الأسبوع الثاني من شهر فبراير الجاري بدلاً من الأسبوع الأول منه.
تبادل أوراق
الجولات الماضية جميعها لم تشهد تفاوضاً مباشراً بين الطرفين، حيث اقتصر الأمر على تبادل الأوراق عبر الوسيط الأفريقي ممثلاً في الآلية الأفريقية رفيعة المستوى برئاسة «ثامبو أمبيكي» ولم يُشاهد الطرفان في طاولة مباشرة حتى في ردهات (شيراتون أديس أبابا) الذي احتضن وفود التفاوض المختلفة سواء بين الحكومة السودانية وحكومة دولة جنوب السودان، أو الحكومة السودانية مع الحركة الشعبية قطاع الشمال.
الوساطة الأفريقية برئاسة «أمبيكي» أرسلت الأسبوع قبل الماضي مسودة مقترحة لحل مشكلة المنطقتين وسلمتها للطرفين، طلبت منهما دراستها كلُ على حدة والرد عليها. وتضمنت مسودة لجنة «أمبيكي» حسب مصادر (المجهر) على إعلان مباديء مقترح لوقف العدائيات تمهيداً للاتفاق على وقف شامل لإطلاق النار استباقاً للجلوس على طاولة التفاوض المباشر. وقامت الوساطة الأفريقية بتسليم الطرفين تلك المقترحات كتابة في الرابع من ديسمبر في العام الماضي، على أن يجتمع الطرفان بحسب المقترح القديم في منتصف ديسمبر بالعاصمة الإثيوبية «أديس أبابا»، ولكن الخامس عشر من ذات الشهر توفي الرئيس الجنوب أفريقي السابق «نيلسون مانديلا» ما اضطر الرئيس «أمبيكي» إلى قطع عمله بالآلية الأفريقية ومغادرة «أديس أبابا» متوجهاً إلى جنوب أفريقيا لحضور تشييع «مانديلا»، ما أدى إلى تأجيل التفاوض إلى أجل غير مسمى رغم أن الطرفين قد ردا كتابة على مسودة «أمبيكي» المقترحة
أيضاً في ذات الأيام وتحديداً في السادس عشر من شهر ديسمبر تفجرت أزمة الجنوب واشتعل الصراع بين الرئيس الجنوبي «سلفاكير ميارديت» ونائبه المقال الدكتور «رياك مشار»، وما تبعها من تأثيرات على مجريات التفاوض بين السودان وجنوب السودان، أو حتى بين الحكومة السودانية وقطاع الشمال، ولم تتحرك الأوضاع وظلت ساكنة في طاولة التفاوض إلى أن ألقى «أمبيكي» بحجر كبير على البركة في الأسبوع الماضي محركاً بذلك سكون الملفات.
مواقف التفاوض
يقول المراقبون إن عدم نجاح الجولات الماضية من التفاوض يعود إلى ممارسة قطاع الشمال لتكتيكات مختلفة في الجولات الماضية، واستمراره في الرفع من سقفه التفاوضي بشكل كبير. في مقابل ذلك ظلت الحكومة السودانية ووفدها التفاوضي (متمترسة) في موقف واحد ولم تتحرك منه. وظل قطاع الشمال ينطلق في الجولات الماضية من أرضية الاستفادة من كرت الأوضاع الإنسانية في المنطقتين ومغازلة المجتمع الدولي عبره بغرض الضغط على الحكومة السودانية، بحجة تقديم المساعدات الإنسانية بشكل عاجل للمتضررين في مناطق النزاع. ولعل الشاهد على ذلك الصراع الذي قادته قيادات قطاع الشمال من خلال زيارتهم إلى أوروبا سيما مدينة «جنيف» في سبتمبر من العام الماضي، استباقاً لفعاليات الدورة (23) لجلسات مجلس حقوق الإنسان والتي قاد وفد السودان إليها وزير العدل «محمد بشارة دوسة». أما الحكومة السودانية فقد ظلت (متمترسة) حول موقفها التفاوضي الداعي إلى التمسك بمسارات التفاوض الثلاثة في آن واحد، بغرض الوصول إلى حل شامل لأزمة منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وأعلنت على لسان رئيس وفد التفاوض البروفيسور «إبراهيم غندور» في ذلك الحين أنها لن تعطي الأولوية لمحور دون الآخر، وأنها ترغب في الوصول لتسوية نهائية للملف الإنساني، والسياسي والأمني بشكل متزامن في المنطقتين.
أجواء «أديس»
ظلت حالة الطقس السياسي في «أديس أبابا» ساخنة بدرجات عالية رغم برودة الأجواء هناك، حيث سيطرت الخلافات والتكتيكات المتبادلة على مناخ التفاوض، سيما من جانب قطاع الشمال الذي كان ينظر إلى ملف المنطقتين بذات الزاوية التي ينظر منها قادة الجنوب إلى القضايا الخلافية بين السودان وجنوب السودان. والطرفان ربما يصلا إلى «أديس أبابا» في الجولة المرتقبة للتفاوض حول المنطقتين، في ظل الكثير من المتغيرات على المستوى الداخلي في السودان أو في جنوب السودان، أو حتى داخل الجسم السياسي والعسكري لقطاع الشمال.
في السودان يبدو الظرف مناسباً لإعلاء قيم التصالح والوصول إلى تسوية سياسية سريعة للخلاف بين الحكومة وقطاع الشمال، وذلك من واقع الدعوات التي أطلقها رئيس المؤتمر الوطني، الرئيس «البشير» خلال خطابه الأخير للأمة السودانية، حيث أفرد في وثيقة الإصلاح التي أعدها المؤتمر الوطني بمحاورها الأربعة، محوراً منفصلاً لقضية السلام والمصالحة. ولأول مرة تُوجه الدعوة صراحة لقوى المعارضة للمشاركة برأيها ووجهة نظرها في تلك القضايا ومن بينها قضية السلام، ما يرفع من توقعات الناس بإمكانية تقديم تنازلات لأجل العملية السلمية.
أما الصراع المستمر في دولة جنوب السودان بين الحكومة التي يرأسها «سلفاكير»، وبين القوات المنشقة بقيادة نائبه المعزول الدكتور «رياك مشار» وما أفرزته من تحالفات جديدة هناك أيضاً، له آثاره على ملف التفاوض بين الحكومة السودانية وقطاع الشمال، فالناظر بعمق للتركيبة الجغرافية والاجتماعية في مناطق النزاع داخل العمق الجنوبي يدرك أن الحدود بين الجنوب ومنطقة النيل الأزرق في السودان، أو حتى جنوب كردفان تمثل مناطق كثافة لقبائل النوير المساندة للدكتور» رياك مشار» بشكل كبير ضد حكومة «سلفاكير»، ما يجعل الفرص ضئيلة أمام قطاع الشمال لشن حرب ضد المواطنين في تلك المناطق، في حال مساندته لموقف الرئيس «سلفاكير» طمعاً في الدعم والمساندة في حالة الانتصار، كما أن ذات المعادلة تبدو عكسية حال انتصار تيار «مشار» وفي هذه الحالة يعجل قطاع الشمال بتدخل الجيش السوداني لصالح قوات «سلفاكير» بحجة مكافحته لأعمال عدائية ضد السودان. وفي ظل تلك القراءات فإن قوات «مشار» اتهمت في الفترة الماضية قطاع الشمال بالمشاركة مع جيش جنوب السودان في قتل عشوائي منتظم للمدنيين بولاية أعالي النيل عقب استردادها منهم، حيث قال المتحدث باسم قوات «مشار» «جيمس قديت»، في تصريحات لـ(سودان تربيون)، إنهم تلقوا تقارير مزعجة قادمة من «ملكال» بأن القوات الحكومية الجنوبية وقطاع الشمال، لجأت للقتل الجماعي للمدنيين في «ملكال» بطريقة مشابهة لما حدث في «جوبا»، عندما تم استهداف آلاف من النوير.
الخيار الثالث
ورغم أن تعقيدات الجنوب الداخلية ربما تساعد بشكل كبير في حلحلة المشاكل السياسية والأمنية داخل السودان، إلا أن التعقيدات داخل قطاع الشمال نفسه ربما تؤدي في الأيام القادمة إلى حدوث الكثير من المفاجآت، سيما وأن قطاع الشمال في هذه الأيام يعيش صراعات محتدمة على مستويات مختلفة. ويبدو ذلك أكثر وضوحاً من خلال الإجراءات التي أعلن عنها رئيس الحركة الشعبية قطاع الشمال «مالك عقار»، والقاضية بفصل اللواء «خميس جلاب» من قطاع الشمال وتجريده من رتبته العسكرية في الجيش الشعبي، وذلك يعطي مؤشرات لشكل وأبعاد الصراع. ويمكن للواء «جلاب» أن يقود تياراً قد يؤدي إلى شق قطاع الشمال سياسياً وعسكرياً، سيما وأن الرجل من قدامى المقاتلين في الحركة وهو من أكثر القيادات تأهيلاً على المستوى العسكري، حيث يعود تاريخه إلى الدفعة (32) بالقوات المسلحة السودانية وتقاعد عنها برتبة النقيب، وانضم بعدها إلى صفوف الجيش الشعبي وترقى فيه حتى رتبة اللواء. ويقول مقربون من الرجل إنه يعتقد أن قضية جبال النوبة تخص النوبة وحدهم، وأن «عبد العزيز الحلو» و»ياسر عرمان» وغيرهما ما هم إلا دخلاء يريدون الزج بقضية النوبة في أتون صراع لا مصلحة للنوبة فيه، كما يقول المقربون من «جلاب» إنه يرى في نفسه الأكثر أحقية بتولي رئاسة الحركة وقيادة الجيش الشعبي في جبال النوبة، باعتباره من القادة الذين عملوا مع «يوسف كوة».
ومعادلة فصل «جلاب» مضافة إلى إفراج حكومة الجنوب عن اللواء «تلفون كوكو»، ربما تمثل كرتين رابحين في يد الحكومة السودانية إذا أحسنت استخدامهما، ودعمت إنشاء تحالف بين الرجلين وساهمت في إذابة جليد القطيعة بينهما. ولكن إقصائهما من قبل «عبد العزيز الحلو» ربما يدفعهما بقوة نحو الاتفاق دون أي عوامل خارجية.
حاجة أخيرة
أحد كبار القادة في الجيش الشعبي في جنوب السودان تحدث لـ(المجهر) في الجولة الماضية للتفاوض بين «الخرطوم» و»جوبا»، مؤكداً أن جيش الجنوب يسعى لتطوير نفسه نوعاً وكماً وتنظيماً. وأطلق عبارات توقفت عند سماعها طويلاً، حيث قال إن هيكل الجيش الشعبي بعد (استقلال) جنوب السودان سيتجه نحو التوسع في عدد الفرق، وقال: (الآن لدينا مقترح مجاز لإنشاء فرقتين جديدتين بديلتين للفرقتين التاسعة والعاشرة اللتين فقدهما الجيش الشعبي في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق). وعبارات محدثي تلك تحمل في طياتها الكثير من المعاني ومن بينها أن الجيش الشعبي في الجنوب يتجاذبه تياران، أحدهما يسعى للتخلي عن قطاع الشمال عبر إنشاء فرق جديدة من بينها مسميات بذات الفرق العسكرية في المنطقتين، أما التيار الآخر فهو الذي يرتبط مع قطاع الشمال بمشروع السودان الجديد ويعتقد أنه حال إمكانية تحقق المشروع فالواجب دعم القطاع، وفي حال عدم إمكانية ذلك فالواجب استنزاف السودان من خلال دعم قطاع الشمال. وينظر أصحاب ذلك التيار إلى موازين القوى وضرورة ترتيبها.
وفي كل الأحوال تبقى احتمالات الوصول إلى سلام قائمة بذات الدرجات التي يمكن أن تؤول إليها الأوضاع من تصعيد واحتراب، ولكن متغيرات الأوضاع الإقليمية والدولية لا تدعم الحرب كثيراً في ظل المبادرات المتبادلة بين الرئيس «البشير» والرئيس «إدريس دبي» في قضية دارفور، والمجهودات التي يقودها وزير العدل «محمد بشارة دوسة» في محور آلية «أم جرس» للسلام في دارفور، وانعكاسات ذلك على عمل الجبهة الثورية كتحالف بين حركات دارفور وقطاع الشمال.