الضمانة..!!
حسناً فعلت وزارة الصحة بولاية الخرطوم وهي تغلق المستوصف الذي أودى أحد أطبائه بحياة أحد المواطنين، في واقعة معروفة تملأ تفاصيلها المدينة الكبرى وتمددت إلى كل المواقع، فصُدم الناس وشعروا بالفزع، وحق لهم ذلك، طالما أن كل طرف طريق ومنعطف زاوية بنى فيه أحدهم وشيد بناية سماها (مستشفى تخصصي) و(مدرسة نموذجية)، ولا صحة أو تعليم، وإنما قصور مشيدة وآبار معطلة، بل إن بعض تلك المباني إنما هي منازل عادية حسنت بالألوان والزجاج، ولو أن السلطات جادة في أمر جزعها على المواطنين فعليها اليوم قبل الغد تجريد حملة لتفتيش تلك اللافتات، فهذا أفضل وأجلب للطمأنينة من حرب الحكومة الضروس ضد باعة الأطعمة والباعة الجائلين وعمال غسيل العربات على الأرصفة، فهؤلاء ليسوا مجرمين بقدر أولئك الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ثم يدقون عقولهم وأعناقهم ويمزقون أحشاءهم.
هذه جرائم تستحق عقاباً رادعاً، وأخطاء في مقام الجرم أيضاً، وقد تعجبت والله للتكييف القانوني الذي يُخرج كثيراً من مرتكبي الأخطاء الطبية بالإهمال والجهل الصريح (زي الشعرة من العجين)، ومن بدايات الإجراء القانوني، فقد سمعت وقرأت أن الطبيب المتهم في جريمة شهيد واقعة المشفى الذي أغلقته السلطات الأسبوع الماضي خرج بالضمانة! وبدا لي هذا غريباً إلى حد ما، فما وقع عقوبته من الجرائم المعاقب عليها بالسجن مدة تجاوز ثلاث سنوات حتماً، حيث لا يجوز أن يطلق سراح المتهم فيها بالضمانة إلا إن كان استثناء، مثل أن تكون هناك قناعة متوفرة بأن التحريات لن تضار وأن هروب المتهم مستبعد، أو أن السلطة المصدقة تعتقد أنه ليست هناك جريمة! ولست أعلم أين هذا من قضية الطبيب المتهم، فطبيعة الاتهام هي الإهمال، وربما عدم المعرفة، مما أودى بحياة إنسان. والبينات متوفرة بكثرة في هذه الحادثة، مما يجعل احتمال العقوبة المشددة وارداً، خاصة إن كانت هناك احتمالية لأن تكون العقوبة المنتظرة هي الإعدام.. فكيف لمثل هذا أن يخرج بالضمانة؟!
مثلما يحرص الأطباء ومجلسهم ووزارتهم على التمسك بحقوقهم المدنية والمعنوية كاملة، لجهة أن هذا قطاع لا يصح المساس بأخلاقه وكذا وكيت، فمن حق المواطنين بالجانب الآخر والمرضى الإحساس بأن حياتهم ليست حقلاً للتجارب والتجريب، بحيث يمكن لأي منهم أن يلقى حتفه، لأن جسد المواطن المغلوب على أمره صار عرضة لكل الأخطاء والهفوات المميتة.. ولو أن لصاً صغيراً ضُبط مثلاً يعبث بسيارة الطبيب المدان نفسه، لنال المسكين علقة ساخنة، ولقبع في الحراسة وقُدم للمحاكمة ولم يرحمه أحد، فما بالك بمن قتل ولو بشبهة القتل الخطأ يطلق سراحه بالضمانة؟!
يبدو أن ثمة حاجة ماسة لاستحداث نظام مراجعة دقيق لمثل هذه الحوادث مهنياً وقانونياً، لأن اهتزاز الثقة لحد الخوف في الأطباء والعلاج في المستشفيات المحلية، سيقوض تماماً أيما جهود لتطوير وترقية القطاع الصحي، ولن يفلح أمره ولو استجلبت أحدث المعدات، طالما أن البعض بات يشعر أنه سيدخل إلى المستشفيات بحال ويخرج منها بـ(لا) حال!!