صراع الثقافات
الترهل الذي أصاب الثقافة العربية هو نتيجة حتمية للترهل الذي أصاب الأمة العربية في مختلف الميادين وشتى الأصعدة.. فالإنسان العربي اليوم “مستورد” من الدرجة الأولى لكل شيء حتى “ربطة عنقه” ومن يسلم عنقه لربطة غيره لن يسلم أبداً.. الإنسان العربي أصبح يدمن كل ما هو مستورد ويستلذ بكل ما هو وافد.. وإذا راهن على شيء فلن يراهن إلا على الأجنبي.. عقدة من نوع غريب أخذت تنبش ذاكرة الحضور العربي.. تغيبه تماماً.. تجعله غير قادر على التنفس الطبيعي في مداراته ومناخاته.. هو دائماً في حالة زحف هستيري مستميت في اتجاه شتاءات البرد القارس.. يهرب من خطوطه الاستوائية الساخنة مستغيثاً بالجغرافية البعيدة والنائية.. يفهم جيداً كيف يلوي شفتيه وهو يتشدق باللغات الأفرنجية.. لكنه يصمت كثيراً أمام محاولة إعراب الجملة الاسمية أو الجملة الفعلية في لغته الأم!
ثمة تناقض غريب يعيشه الإنسان العربي المندهش بشكل يدعو للشفقة بالحضارات الجاهزة والمعلبة.. تناقض يثير أسئلة مربكة ومقلقة حول “العلاقة المريبة” وغير المبررة مع عوالم لا تعترف به أصلاً في الوقت الذي يمارس “القطيعة الصارمة” مع عالمه بكل استعلاء وازدراء..أليس غريباً أن يكيل البعض العربي المديح المجاني لكل الأشياء غير العربية؟! أليس محيراً أن يكيل البعض العربي الذم بالجملة لكل ما هو عربي؟! و أليس منطقياً وحتمياً في غمرة هذه المهرجانية المحتفية بالطارئ على أجوائها أن تنمحي ملامح الثقافة العربية وأن تتلاشى تفاصيلها وأن تتحول منجزاتها إلى لوغاريتمات غير مفهومة ومسخ كرتوني شائه ومتكرر للثقافات الأخرى؟!
إن البحث عن هوية ثقافية عربية خالصة لا يمكن أن يتحقق في ظل التأثير القسري للثقافات الأخرى والتي ما فتئت تتربص بالثقافة العربية باعتبارها آخر معاقل العروبة وتحاول أن تجد و لو ثقب إبرة لتمرير خطابها كي تواصل عملية الاستلاب الثقافي وترسيم الحدود الثقافية العربية وفق مستلزمات “العولمة” وما تحمله من أفكار جديدة لـ”قولبة” العالم في أطر ضيقة لا تتيح أي فضاءات لخصوصية التجربة الثقافية وتماهي هويتها.. ولو قدر للثقافة العربية الذوبان كلية في كوب الثقافات الأخرى فلن يسعفها الحظ على الأرجح كيما تحتفظ بطعمها ومذاقها طالما أن هناك استعداداً تلقائياً ومسبقاً للتخلي عن الهوية الثقافية واستبدالها بأخرى لمجرد ظرفية “شوفونية” تلهث وراء المحاكاة بشكلها الميلودرامي المضحك والمشفق معاً!
لا أحد يمكن أن يدعو للقطيعة مع الثقافات الأخرى في زمن أضحى فيه العالم قرية صغيرة ولكن فليكن ذلك بمحض الإرادة.. وليكن ذلك من منطق الندية لا الانكسار.. وليكن ذلك تواصلاً ثقافياً لا يلغي “النحن” ولا “الآخر”.. وهذا لن يتم أبداً إلا باحترام كل أمة لثقافتها وصون كل أمة لحضارتها وحرص كل أمة على هويتها!!