(بنات الداخليَّات) .. حياة بين شقي الرّحى!!
ما أن أشارت عقارب الساعة إلى الخامسة مساءً، أمام إحدى الداخليات العريقة للبنات بالخرطوم، حتى بدأت سيارات في التوافد، حاملة (بعض) الطالبات في جوفها.. وكل واحدة منهن ارتضت صاحب السيارة (ممولاً) يغدق عليها المال الوفير، مقابل مصالح ومنافع مشتركة!!
وداخل مطار الخرطوم – كما قيل – تقضي بعض الطالبات ليلتهن بدعوى انتظار مسافر.. وذلك في حال تأخرهن عن موعد إغلاق الداخلية أبوابها، لانتهاء الوقت المسموح به للدخول.
الكثير من علامات الاستفهام تتجلى أمام هذا الواقع الذي ظل وما زال – في نظر الكثيرين – أشبه بالغول الذي يحاول افتراس (فاطمة السمحة) التي جاءت إلى العاصمة من مناطق مختلفة بالولايات، وهي تنشد التحصيل الأكاديمي، لتواجهها الكثير من العقبات والمشاكل!!
(داخليات البنات) عالم تتجلى داخله كواليس قتل البراءة، بدعوى التمدن وركوب موجة الحضارة.. أحلام تتباين وآراء تختلف.. ومكان يحوي بين جنباته شريحتين من الفتيات، يتفقن في تحصيل العلم، ويختلفن في العادات والسلوك والفارق الاجتماعي والبيئة والاحتياج.. هاتان الشريحتان تتمثلان في الطالبات الوافدات من الولايات، وفتيات الشهادة العربية، ويجمع بينهن قاسم (البعد المشترك) عن الأهل.
وقد أطلق كثير من الآباء والأمهات صافرات الإنذار، ومن قبلهم كتاب وإعلاميون وسياسون.. نادوا بمزيد من المعالجات الناجعة لحماية بناتنا من براثن الاستغلال والعبث بالعقول والتقليد الأعمي، وتحريرهن من فك مافيا (تجار الجسد)، وذلك بإلحاقهن بالجامعات والكليات التابعة لولاياتهن، ليصبحن تحت رقابة ذويهن.. لكن.. ورغم هذه (الصافرات) ظل الحال على ما هو عليه.. مرعباً وينطوي على كثير من السلوك السالب تمارسه كثير من الطالبات.. ليبقى السؤال قائماً ومتجدداً: (في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي تشهدها الأسر السودانية، كيف توفق فتاة الداخلية أوضاعها؟! وهل (الجوع) وحده هو الذي يتم استغلاله من قبل (خبراء وخبيرات) لجر طالبات إلى وحل الانحراف.. أم أن للأمر أبعاد أخرى؟!
} مشهد أول
قبل الولوج أكثر في ما يقال عن (داخليات البنات) وسلوك بعض الطالبات غير المنضبط.. من انحراف وزواج عرفي ومخدرات… الخ، ننقل بعض المشاهد (الأولية) التي تعكس حال بعض الطالبات عقب التحاقهن مباشرة بالجامعة ثم الداخلية.. إذ تكون الطالبة كائناً له عاداته التي تختلف في الشكل والطباع والاهتمامات عن الذين يقابلهم في (محيط المدينة) الجديد.. وهذا بالطبع لا يشمل اللاتي لهن خبرة بالمدينة و(طرقها الوعرة).. بما يمكنهن من معرفة الطريق السليم الذي يفضي إلى (الوقاية)!!
في المشهد الأول طالبة قادمة لتوها من ولايتها البعيدة.. تقوم بغسل حذائها في الداخلية داخل (صحن الفتة)!!
المشرفة التي لاحظت الفعل الغريب وبخت الطالبة على تصرفها غير اللائق.. إلا أن الأخيرة ردت بكل براءة: (في شنو يا أبلة.. أنا بغسل نعلاتي)!! هذا المشهد الذي يبين حال بعض الفتيات (الخام) ليس من بنات أفكارنا.. إذ روته لـ (المجهر) إحدى المشرفات!! وهذه البراءة تقود إلى النظر عن حال هذه الطالبة بعد شهور.. ماذا ستتلقى من السلوكيات الجديدة – السيء منها والحسن – وكيف ستتعامل معها.. وهذا بالنظر إلى (العوامل السلبية) المصاحبة.. المتمثلة في فقدان الرقابة الأسرية – جزئياً أو كلياً – ثم حاجتها المالية (الكبيرة) لمجاراة بنات جيلها.. ومدى مقدرة أسرتها على توفيرها لها.
} قاعدين وما جايبين خبر!!
وعند التطرق إلى موضوع طالبات الداخليات.. لا بد من استصحاب حديث البرلمانية د. “سعاد الفاتح”، الذي أدلت به داخل البرلمان، عن معاناة بعض طالبات الولايات اللاتي يسكن بالداخليات، وذلك أثناء مداولات الأعضاء حيال بيان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الذي دعا إلى الانتباه إلى قضايا الطالب الجامعي وضرورة ايلائه الاهتمام.
د. “سعاد الفاتح” قالت إنها مع ثورة التعليم العالي، ولكن من الأفضل أن تكون الطالبة في جامعة بولايتها، فبعد الفتاة عن أسرتها تمخض عنه ما أسمته (المصيبة)!! محذرة من استمرار تدهور التعليم الجامعي.. وأردفت بقولها: (يا أخوانا.. نحن قاعدين في المكيفات وما جايبين خبر.. كيف لطالبة مصروفها (20) جنيهاً خلال الأسبوع أن توفي بمتطلباتها)؟!
تساؤل “سعاد الفاتح” أدى إلى ارتفاع درجة حرارة النقاش داخل البرلمان، للحد الذي دفع بوزير الدولة بالتعليم العالي “أحمد الطيب” أن يتصدى مدافعاً عن موقف وزارته، مؤكداً عدم استطاعتهم إلزام الطلاب في الولايات بالبقاء والدراسة بها.
بيد أن التساؤل ينطوي على قصص وحكايات تجسد مآسي فتيات أتين لتحصيل العلم، فانجرفن مع موجة الانحراف، وتحولن للقمة سائغة في فم (القناصين) و(القناصات). ولعل حرص “سعاد الفاتح” في الحفاظ على نسيج السودان الاجتماعي، يقابله تساؤل آخر عن مدى صلاحية البيئة الجامعية بالولايات السودانية وتأهيلها لاستيعاب الطلاب بها..
} نشاط وقائي
ورغم الاختلاف بين العاصمة والولايات في مجالات شتى، ورغم تباين أهداف بعض الطالبات تجاه التحصيل الأكاديمي الذي جئن من أجله، إلا أن واقع الأمر – بحسب الباحثة الاجتماعية “ثريا إبراهيم” التي تحدثت لـ (للمجهر) – بحاجة إلى وجود نشاط طلابي جامعي، تتبناه الدولة، تصب فيه الطالبة جل اهتمامها، وتنصرف بذلك عن الانحراف، ومن ثم ترتفع درجة الوعي لديها.. وهذا في حال عدم إمكانية إبقاء الطالبة بولايتها.. سيما أن الولايات تعاني من تنمية غير متوازنة، ما أدى إلى الهجرة والنزوح لولاية الخرطوم.
ومضت “ثريا” في القوله متسائلة: إذا كانت منطقة الوسط تعاني.. فما بالك بالمناطق النائية؟! وأرجعت تدهور بيئة بعض الداخليات إلى الدولة، في ما يتعلق بالسكن والخدمات الاجتماعية والإعانة، كما أرجعت انحراف بعض الطالبات إلى ضعف الدعم المادي الذي من المفترض أن يتكفل بتغطية جميع احتياجاتهن.
} أي مجتمع لا يخلو من السلبيات!!
الصندوق القومي لرعاية الطلاب دافع عن نفسه أمام الاتهامات التي وضعتها (المجهر) على طاولته، وقال على لسان مسؤول إعلامه “مكاوي علي مكاوي”: الظواهر السالبة ترجع لاختلاف العادات والتقاليد والسلوك، ونحن داخل مجتمع كبير، وأي مجتمع لا يخلو من السلبيات، والأمر لا علاقة له بالبيئة الجامعية. مشيراً إلى مساعيهم في البحث عن معالجات لتدارك الغلاء والحد من ارتفاع سعر الوجبة، بعد رفع الدعم الأخير. وهذه المعالجات – بحسب “مكاوي” – تتمثل في تنازل الصندوق عن حقوقه لدى أصحاب الكافتريات المستأجرة بجميع المدن الجامعية التابعة للصندوق، وتشمل (الإيجارات والماء والكهرباء)، بالإضافة إلى ارتفاع مبلغ الكفالة من (75) جنيهاً إلى (100) جنيه، يتسلمها الطالب شهرياً عبر الصراف الآلي، إلى جانب عباءتين يقدمهما الصندوق لكل طالبة كدعم مادي وعيني.
بيد أن عدد الطلاب المكفولين – بحسب الصندوق القومي لرعاية الطلاب – بلغ بنهاية هذا العام حوالي (200) ألف طالب، إلا أن هذه الكفالة تنبني على شروط، منها أن يكون المدعوم من الطلاب النظاميين – دارسي البكلاريوس – في الجامعات الحكومية، وأن يكون من الأسر محدودة الدخل، كما أن هناك كفالة صحية لأصحاب الأمراض المزمنة. وهذه الشروط وإن بدت مجحفة – بحسب “مكاوي” – في حق دارسي (الدبلومات)، إلا أن الصندوق قام بإنشاء ما أسماه (مشروع التسليف)، الذي يقوم بإعطاء الطالب مبلغاً لا يتعدى ثلاثة آلاف جنيه، عبر ضمانات سهلة، على أن يسدد المبلغ في غضون عامين.. ويندرج تحت هذا المشروع دارسو الدبلومات والقبول الخاص.
} الإشراف والرقابة
السكن بالداخليات، هو امتداد للسكن المنزلي، لكن تحكمه قيود وضوابط محكمة تختلف عن تلك التي بالمنزل، على اعتبار أن سلامة الطالبات مسؤولية ثقيلة تقع على عاتق المشرفين والرعاة (الصندوق أو الإشراف الداخلي).
وعن هذه المسؤولية، والحياة التي تعيشها الطالبات، تحكي مشرفة بإحدى الداخليات الخاصة – فضلت حجب اسمها – وتقول لـ (المجهر)، وهي تسترجع أيام توليها أولى مهامها الإشرافية بداخلية بنات، إنها من هول ما عانت أقدمت على تقديم استقالتها، مشيرة إلى الكثير من الصعوبات التي واجهتها في عملها.. وأضافت: الكثيرون يحسبون أن الداخليات الخاصة ليست عليها رقابة، وهذا غير صحيح، فهي تخضع لرقابة كاملة من قبل الصندوق القومي للطلاب، وهناك طالبات تم فصلهن من الداخلية التي كنت أعمل بها لعدم التزامهن – لأكثر من ثلاث مرات – بالوقت المحدد للعودة، وهو العاشرة مساءً.
} أسئلة مشروعة
الرقابة التي تخضع لها الداخليات الخاصة – بحسب المشرفة – دفعت الصندوق القومي لإلغاء تصاديق عدد من الداخليات الخاصة، بسبب مخالفتها للوائح وبعض سلوك الطلاب السالب.
وبحسب مسؤول الإعلام بالصندوق القومي لرعاية الطلاب، فإن الداخليات (الخاصة) تنطبق عليها اللائحة أسوة بالداخليات الحكومية، أما الداخليات التي لا تستخرج لها تصاديق عبر الصندوق، فإن شرطة أمن المجتمع تتولى أمرها.
لكن.. بعد كل هذا يظل السؤال مفتوحاً على كل الاتتجاهات: هل الدعم الذي يقدمه الصندوق كافياً لـ (سد ثغرة المنصرفات) خاصة للطالبات.. وهل وقفت مسؤولية الصندوق عند فرض زمن معين للطالبات عند الرجوع للدخلية؟!
وقبل هذا.. وهو السؤال الأهم: لماذا لم تسع الدولة – بكل إمكانياتها – لتحقيق (القبول الجغرافي) بتوفير جامعات أو كليات جامعية بكل الولايات.. تقي بناتنا شرور (المتربصين).. وتجعلهن تحت رعاية أسرهن المادية والمعنوية.. و(يا دار ما دخلك شر)؟! وهو الأمر الذي إن حدث لقضى على المشكلة (من جذورها).. فمتى تفعلها الدولة؟!