انقلاب
} أحبطت سلطات الأمن والمخابرات في دولة جنوب السودان أول انقلاب عسكري نفذه خصوم “سلفاكير” من داخل بيت الحركة التي ضاقت أوعيتها باستيعاب الرؤوس الكبيرة الطامحة لزعامة الجنوب. وانقلاب الخامس عشر من ديسمبر يماثل انقلاب “هاشم العطا” في السودان، حينما ضاقت أوعية مايو بصناعها ورموزها وثوارها.. ومثل انقلاب العميد “ود إبراهيم” الأخير.. عندما تضيق مراكب السلطة بأهلها والمؤسسين ينقلب السحر على الساحر.
} في جوبا تمكنت السلطات الأمنية حتى ظهر أمس (الثلاثاء) من السيطرة جزئياً على الأوضاع، ولكن بذرة الانقلاب في تربة دولة الجنوب القابلة أصلاً للصراعات والتمردات، بذرة لفتنة قبلية وإثنية بين (النيليين) الحاكمين وهم الدينكا والنوير والشلك. والانقلاب المنتهي للفشل ربما أشعل شرارة صراع دام في الجوب مقبل الأيام.. وهو صراع لن يكون الشمال بمنجاة منه، حيث الجغرافية المشتركة والتداخل الحدودي بين شعبين قسمتهما السياسة، ولكن يظل ما يحدث في جوبا له علاقة مباشرة بالخرطوم، لأن (65%) من سكان الجنوب يقطنون الأطراف الشمالية من الدولة في ولايات أعالي النيل والوحدة وشمال بحر الغزال وغرب بحر الغزال، فجميع هذه الولايات لها حدود مشتركة مع السودان، وفي حال نشوب حرب بين الدينكا والنوير فإن الولايات الشمالية في الدولة هي مسرح الحرب القادمة، ومنها يتسرب اللاجئون إلى النيل الأبيض وجنوب كردفان وشرق دارفور، ويحدثنا التاريخ القريب عن آلاف الجنوبيين الذين لاذوا بالشمال طلباً للحماية حينما تقاتل النوير والدينكا في أعالي النيل بعد الانشقاق الذي قاده د.”رياك مشار” وتمرده على الراحل “جون قرنق” ورئيس أركان جيشه حينذاك “سلفاكير ميارديت”.. وانقلاب الخامس عشر من ديسمبر يعيد ويستحضر روح الخلاف القديم والتاريخي بين النوير والدينكا.
} الانقلاب الذي تم إحباطه حتى أمس لم (يتحور) لصراع قبلي بين الدينكا والنوير.. مثلما كان انقلاب الناصر في بداياته صراعاً داخل الحركة الشعبية والجيش الشعبي حول مستقبل جنوب السودان، هل يذهب نحو الاستقلال أم يتمسك بالوحدة التي يسوّق لها رئيس الحركة “جون قرنق”.. وأعلن “مشار” حينذاك قيام حركة باسم استقلال جنوب السودان.. وسرعان ما انحرف الصراع من سياسي داخلي لصراع قبلي بين النوير والدينكا، بلغ عدد ضحاياه حينذاك ضعف عدد ضحايا الصراع بين الشمال والجنوب منذ عودة الحرب في 1983م، وعرفت المنطقة التي دارت فيها المعارك بمثلث الموت وهي منطقة (واط.. أيود.. كنقر).
} دولة الجنوب بهشاشة تكوينها وضعف مؤسسات المجتمع المدني والتكوين القبلي للجيش الشعبي الذي لا يزال بعيداً عن بلوغ مرحلة (الجيش القومي) وحداثة تجارب قادتها، كلها عوامل قد تؤدي لتنامي الصراع وتحوره لصراع قبلي، وذلك ما نسأل الله أن يحمي الجنوب منه لأن دولة السودان أول من يدفع ثمن عدم الاستقرار في الجنوب.
} ربما انتاب البعض من الغافلين في السودان الفرح والزهو والسعادة لمجرد حدوث انقلاب في دولة جنوب السودان، ولكن هؤلاء ينظرون تحت أقدامهم وتسيطر عليهم النظرة العقيمة وتراكمات الماضي، فاستقرار دولة جنوب السودان لصالح دولة السودان، للارتباط الحضاري والثقافي والاقتصادي والاجتماعي بين الدولتين رغم الانفصال، والبترول الذي يغذي شرايين اقتصاد السودان يأتي من المناطق الحدودية في أعالي النيل والوحدة، المرشحة لأن تصبح مسرحاً للحرب القادمة.
} لقد أثبتت محنة الانقلاب أن اللغة العربية هي الوسيط اللغوي لأغلبية شعب الجنوب، وخاطب الرئيس “سلفاكير ميارديت” شعبه يوم أمس الأول بلغة عربية نظيفة، رغم ادعائه بأنه لا يعرف معنى كلمة (إقالة).
وحتى الصحافيين الجنوبيين توجهوا بأسئلتهم للرئيس العربية بدلاً عن الإنجليزية لغة دواوين الدولة، ولكن العربية هي لغة الشعب والأمة..
} اللهم احفظ الجنوب من شيطان الانقلابات، وعافِهِ من مرض أقعد السودان موحداً وسيقعده منقسماً لدولتين.