الطلاق السياسي والـخيانة الفكرية .. ظلم ذوي القربى (3)!!
} مواصلة لهذا السرد في سيرة الخيانة والفرقاء والأقرباء من أولي الإربة ومن هم من غير أولي العزم من السياسيين، تمتد بنا الرحلة إلى يوليو 1971م وما قام به ضباط الحزب الشيوعي من انقلاب على السلطة، وما وصفوه هم بالثورة التصحيحية وحفظه التاريخ بانقلاب يوليو، ليعبر عن خيانة الرفاق لبعضهم البعض، وعن جدلية الفكر والعسكر وتراجيديا النار والهشيم.
} وكان الأكثر إيلاماً قيام بعض الضباط بتصفية زملائهم العزل ببيت الضيافة والإجهاز عليهم وسحقهم بالأرجل تفشياً بعد فشل الانقلاب، وهذا بدوره أدى إلى رغبة في الانتقام لدى “النميري” وصحبه، وتم إفراغ العديد من خزن الرصاص في أجساد المشاركين في الحركة، الرائد “هاشم العطا”، المقدم “بابكر النور”، “فاروق حمد الله”، بينما حمل آخرون وهم أموات لحبل المشنقة مثل الزعيم العمالي الخالد “الشفيع أحمد الشيخ” ولم تشفع له روسيا ولا وسام “لينين” الذي يحمله على صدره كما حمل همّ العمال طيلة عمره القصير.
} وبعد سنوات يتكرر نفس المشهد في الحركة الوطنية يوليو 1976م (لاحظ معظم أحداثنا الجسام حدثت في أبريل ومايو ويونيو ويوليو)، وهذه الحركة أيضاً وصفها “النميري” وآلته الإعلامية بالمرتزقة ولم يتكرم على شهدائها حتى بلقب مواطن، في انتهاك واضح لكل جميل، وليس بمستغرب على من وصف الزعيم الأزهري يوم نعيه بأنه (المعلم بالمدارس الثانوية) أن يأتي بمثل هذه البدع والصنائع!!
} ولا أدري لماذا سكت التاريخ عن السبب الأساسي الذي أدى إلى فشل الحركة الذي هو الخيانة وليس سواها.. نعم هي الخيانة التي ألمح إليها العميد “سعد بحر” عندما طلب منه البعض قيادة الحركة فقال لهم: (ما دام فلان وفلان معاكم وعارفينها، كيف تقولوا حركة سرية)؟! وذلك لما له من حس عسكري وأمني واستخباراتي عالٍ. والغريب أن فلاناً وفلاناً اللذين عناهما “بحر” لا يزالان يمارسان العمل السياسي إلى الآن ويدخلان بين الصفوف ليقوما بدور (خذل عنا نعيم)!! ويقبضان الثمن كما قبضاه من قبل، سوى اختلاف المبلغ الذي كان قديماً جنيهات أما الآن فمليارات أو تزيد!!
} كما قسا التاريخ على العميد “محمد نور سعد” الذي تحمل قيادة الحركة رغم علمه بفشلها، محاولاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وساهم أثناء المحاكمات في التستر على الرفقاء وتحمل كل شيء وحده في تجرد وثبات ونبل عميق، بل وتبسم في وجه من ألقوا عليه القبض وأبلغوا عنه جهاز “نميري” قرب (الكوة) بالنيل الأبيض بعد أن تعطلت سيارته، وهذا العطل الميكانيكي أصاب كثيراً من العربات الخاصة بالحركة بعد أن قام الشخص المكلف بشرائها بعقد صفقة فيها، وشراء عربات (سكند هاند) توقف الكثير منها بالصحراء لتركبها الهوام!! وسنجد لاحقاً أن هذا الشخص سيخون شعبه كثيراً في المناصب التي سيتقلدها لاحقاً، وسيكون العميد الشهيد “محمد نور سعد” كبش الفداء، وينطبق عليه وهو يسير نحو (دروة) إطلاق النار لتنفيذ الإعدام بحقه، مثل من قال وهو ينظر للسادة والقادة الذين خانوا العهد والميثاق لخوفهم على الحيكورات والولاء والمال والخلافة: (لقد باعني أحدكم واشترى بثمني خبزاً، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، وسار مرفوع الرأس بعد أن أيقن أن أرض الخيانة والمكر واللعب بالثلاث ورقات لا تليق به، وعندما ارتجف العسكري المكلف بإطلاق النار وإنهاء الأمر انتهره ليقول له: (اثبت يا عسكري أنا ما علمتك كده) ليلاقي ربه راضياً، بينما من باعوه يعزمون أمرهم لعقد الصلح والولاء والركوع والخنوع، أعضاء في الاتحاد الاشتراكي، وما سماه “النميري” بقوى الشعب العاملة، ليكون طلبهم الوحيد إرجاع أموالهم المصادرة وتوسيع الدائرة التي لا تزال تستمر في الدوران، ويندهش الرئيس “النميري” نفسه من ذلك ويقول لهؤلاء القادة: (لو كان الحكاية قروش كان تكلمونا من بدري)!! ولا تزال هذه الحكاية مستمرة إلى الآن رغم الحركات والوقفات والتذاكر والتناكر والزلابية والسكاكر!!
} وتتواصل محن ومسلسلات الخيانة والطلاقات، ليقوم نظام مايو بالتنكر لاتفاقية أديس أبابا وتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم بعد أن همس في أذنه من ظنهم أصدقاءه، بذلك، وأوحوا له منكر القول وزوره، ليخون الشمال الجنوب من جديد، وتتفجر الحرب الأهلية التي صمتت داناتها ومدافعها سنين طويلة وتأتي على الأخضر واليابس وتحصد ملايين الأرواح دون ذنب سوى عطش السلطة، وحب الجاه المتجذر في نفوس من أولونا دار البوار وظنوا أنهم يروننا طريق الرشاد.
} ويشهد عام 1983م إعادة ميلاد أطول حرب أهلية في أفريقيا وميلاد (داحس والغبراء) في نسختها السودانية الأشد قسوة من الأصلية، ما سيؤدي لانفصال الجنوب، وبث النعرات القبلية والمثلثات المشؤومة، والمناطق الثلاث، ودارفور، والمنابر الظالمة، وحركات الأميبيا الطفيلية و.. و.. هلم جرا، ولا يزال يجر بقاطرة أمريكية حديثة وأصلية!!
} لقد خان المقربون صديقهم “النميري” لأنه نسي قول “نابليون بونابرت”: (اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم)، ولم يقرأ “النميري” التاريخ جيداً لمعرفة من هم هؤلاء وأولئك، كما لم يستفد من الصعوبات التي واجهته والامتحانات والشدائد لمعرفة من معه بالظاهر وعليه بالباطن.
جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي!!
} لقد خان المقربون من “النميري” فكرتهم عندما أوحوا له وألقوا في روعه أنه إمام القرن ومجدد دين الأمة، ودفعوه دفعاً لتطبيق قوانين سبتمبر، وكانت هذه نقطة الطلاق البائن بينونة كبرى ما بين الدين والسياسة، وفتحت باباً لن ينسد أبداً بعد ذلك من خيانات وخيانات!!
نواصل ..