أخبار

كي تعود (الضحكة)!!

(النكتة) أو (الطرفة) فن لا يجيده إلا الموهوبون.. وربما كان من يتقنون إبداع (النكات) يفوقون أحياناً ممثلي الكوميديا مهارة وبراعة.. ذلك أن صاحب (النكتة) المحبوكة جيداً غالباً ما ينتزع (الضحكة) ممن يستمعون إليه، بعكس الممثل على خشبة المسرح الذي قد لا يصل في كل الأحوال إلى إضحاك المتفرج، كما أن الأول حينما يكون متخصصاً في النكات يفوق الثاني من ناحية كونه مؤلفها أحياناً ويملك صلاحية كبيرة للخروج عن نص النكتة وفق ما يستلزمه مناخ الحكي نفسه، وهذا يتيح له مساحة واسعة لانتزاع الضحك من خلال جرعة واحدة أو أكثر إلى أن يصل إلى الهدف بمساعدة متوقعة من المستمع، الذي لا يمكن أن يحرج صاحب النكتة أو يبخل عليه ولو بمجرد ابتسامة مرسومة على الوجه مؤقتاً!
ورغم أن فن (الطرفة) أو (النكتة) لا يجد اعترافاً منهجياً من المنظرين للفنون، ويعدونه مجرد ظاهرة شعبية أو مظهراً من مظاهر السلوك الإنساني اليومي العادي، إلا أن الفنون وخاصة الدراما الضاحكة منها كثيراً ما تبنى أطروحاتها على هذه (النكات)، وهناك كتاب سيناريو كبار يقومون بدفع أموال معتبرة للحصول على نكات تثير الضحك لتطعيم ما يكتبونه بروح النكتة والمواقف الضاحكة.
وقبل أن تنتشر (الكوميديا) بشكلها العلمي الحالي، كان الناس يستخدمون روحها من خلال جلسات السمر التي يحييها خفيفو الظل بنكاتهم وقفشاتهم وطرفهم ودعاباتهم، إذ لا تخلو جماعة من وجود واحد على الأقل بينهم يجيد فن النكتة، ويعرف بين هذه الجماعة بأنه ملاذها لترطيب الأجواء وضخها بالقهقهة التي تنعش النفوس وتغسل عنها الأحزان والآلام.. وفي تراثنا العربي نجد شخصيات شهيرة عرفت بهذه الروح المرحة كـ”جحا” و”أشعب” وغيرهما ممن ذاع صيتهم وانتشرت حكاياتهم ونوادرهم.. وفي عصرنا هذا المليء بالمحن والخطوب والمتخم بالماديات والإشكاليات لم تنهزم (النكتة) تماماً وظلت تكتب حضورها في أحرج الأوقات وأصعب الظروف، لكن ربما فقدت بريقها إلى حد كبير، وأصبحت لا تشكل حضوراً كما السابق وعلى نحو لافت، ولهذا فيما يبدو أسبابه الكثيرة من بينها إيقاع العصر نفسه الذي ما عاد يسمح بتلك الأريحية وذلك الصفاء المفضي إلى الحكي التلقائي والمسامرة والضحك في الهواء الطلق!
ربما الذي يضحك كثيراً في عالم اليوم هو (المفارقة) نفسها التي أصبحت تفوق (النكتة) أثراً ومفعولاً، وهو ما يجعل الإنسان يضحك أحياناً من مواقف الحياة اليومية أكثر من ضحكه على نكتة يلقيها على مسامعه أحد الأصدقاء!!
والبعض يرى أن (خفة الظل) أصبحت مفقودة إلى حد ترك ظلالها الكئيبة على (النكتة)، فتحولت إلى مادة غير مثيرة للضحك، وهذا ما يفسر ربما انتشار النكات (البايخة) أو ثقيلة الظل التي استثمرها البعض بشكل ذكي أنتج ما يعرف بالنكات التي نضحك عليها لأنها لا تضحك أصلاً.. كأن يقول أحدهم سأقول نكتة.. فيقولون له قل.. فيقول (نكتة.. وبس!!).. وهنا لابد أن يضحك من هم حوله (غيظاً) بالطبع وليس (بهجة).. والمهم أن الضحك قد حدث في نهاية الأمر وإن اختلفت الوسيلة!!
ولا يمكن أن ننفي أن مشكلة (النكتة) ليست في ثقل دم من يتولون أمرها، وإنما فيمن يتلقونها غالباً، الذين أصبح الكثير منهم ليس للضحك أية مساحة في دواخلهم.. كما لا يمكن أن نخفي بأن التكرار الممل لـ(الكوميديا) في شاشات التلفزة والسينما والمسرح أفقد الضحك نكهته وجعل المتفرج يستهجن ممارسة الضحك سواء من الكوميديا المصنوعة أو حتى من أفواه الظرفاء في الحياة اليومية!!
والظرفاء في الواقع يشكون من (انحسار) الضحك وانطفاء النكتة، وهم يعترفون بأن هذا المشروع (الفرائحي) يحتاج إلى تطوير في آلياته يتوافق مع روح العصر وعولمته الجديدة، وربما كان هذا بسبب تقصيرهم، لكنهم في ذات الوقت يضعون الكرة في ملعب الناس الذين أغلقوا هذا الباب واستسلموا تماماً للطرفة الجاهزة والمعلبة، التي تأتيهم عبر الفضائيات رغم أنها طرف من النوع المؤذي نفسياً أحياناً ولا تثير الضحك بقدر ما تثير البكاء!! ويضيف الظرفاء بأن الناس ملوا الآن هذه الطرف الجاهزة والمعلبة وبدأوا يشتاقون إلى (نكات) الهواء الطلق، ولكن بحماس فاتر ومشوب بالحذر.. وربما كان تطوير أشكال ووسائل (النكات) هو المهمة التي تنتظرهم الآن، خاصة وأن (الزبائن) لا يسهل استثارة نفوسهم للضحك كما كان في السابق، حيث احتمالات الإضحاك تبدو ضئيلة الآن إلى حد كبير! والمتفائلون من الظرفاء يؤكدون بأن الزمن الآتي هو زمانهم.. وأن بريق (النكتة) سيعود حتماً لأن العالم أصبح (مكفهراً) و(عابساً)، وهو ما يستدعي تناول جرعات كبيرة من (النكات) وممارسة الضحك لامتصاص مساحات الحزن والألم!!
وهؤلاء الظرفاء ربما كانوا على حق، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتاز بالقدرة على الضحك لأنه أكثر الكائنات شعوراً بالحزن والألم.. فهل ستعود الضحكة (الغائبة) إلى إنسان هذا العصر؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية