كاتبات سودانيات.. (بنفسج في حديقة البارود) !!
ارتدت “زينب السعيد” روب المحاماة بلونه الأسود الوقور.. لم تقف هذه المرة مدافعة ومرافعة عن فرد واحد، بل عن شريحة من النساء.. جلست الروائية “زينب”.. غمست قلمها داخل دواة معاناة حواء السودانية، فتسابقت حروفها وتلاقت كلماتها التي اصطفت سطورها الـ(2365) سطراً لتحكي وتصور حياة عدد من النساء غير قليل في مختلف المنازل والبنايات مع (آدم).. الأب, الشقيق، الزوج, ابن العم وابن الخال, ابن العمة وابن الخالة, الجار, الزميل وحتى ذلك الذي يقف على الرصيف.. بلا شك هنالك فئة من الرجال (الرجال) تعامل النساء بالإنسانية كلها– ولكن- متى كان الاستثناء حكماً؟؟ كشفت الرواية عن حجم العنف ضد المرأة.. عنف جسدي, وثانٍ لفظي, وثالث معنوي, ورابع مادي, وخامس وسادس وعاشر.. الخ.
رواية (بنفسج في حديقة البارود) نشرتها مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم، وجاء التصميم الداخلي والغلاف بريشة الفنان “عوض عبد الحميد” التي أبدعت في رسم زهور ذات رقة متناهية، كأن الفنان أراد أن يعتذر وبشدة عن وضعها على حامل من البارود. أبواب الرواية المتداخلة تبدأ من بوابة الصبر المُر.. تتعثر خطوات بطلاتها بلا هوادة, بل قل هي نفوس متعبة على وسائد من الخوف والقلق والشك, فإذا قرأنا رسم حروف “زينب السعيد” لمشهد يجمع بعض بطلات الرواية: “سامية” تستمع لما يدور من شجار معتاد بين والديها, تداري وجهها بكفيها وهي تنشج بالبكاء, دخلت “فاطمة” حجرة ابنتيها “سناء” و”سامية” فانضمت إحداهما للأخرى تاركات لأمهما الفراش.. الليل يبتلع ثلثه الأخير وتنهدات نساء الدار تُقيم مأتماً.. والرجال يغطون في نومٍ عميق.
رواية (بنفسج في حديقة البارود) سطرت ثلاثة أقلام رجالية لها، فلنقرأ بعضاً من سطورها الأولى وهي بقلم الراوي والقاص الأستاذ “نبيل غالي”.. (هذا النص مفعم بالهموم الأنثوية، حيث البحث عن طقوس الخلاص والانعتاق.. هو (النص) صرخة إدانة لواقع مُعاش).. وجاءت حروف القلم الثاني للأستاذ “عبد الباسط سبدرات”.. (دعني أسرق من الرواية هذه الجمل المليئة بالسحر والصدق والجمال.. وأن أطلق عليها تعابير أنثوية من فم النساء، وقد جاءت على لسان واحد من أفراد عائلة البنفسج, أو أكثر (وعقصت ضفيرتها الغزيرة خلف رأسها)، (ثم عطنت الملابس في الماء), (و”سامية” على الأرض كقطعة قماش تحتاج إلى كي), (مرات الأذى يجيك من أقرب الناس ليك), (مخيرة لو أبوك عرف).. أشار الأستاذ “سبدرات” إلى أن هذه العبارات وغيرها مبثوثة في ثنايا الكتاب حين تقابلها تذكر أنها استوقفتني.. والقلم الرجالي الثالث كان للأستاذ “الخاتم عبد الله”.. (لم تصمد منهن سوى واحدة “زهرة”، فعلى الرغم مما قاسته مع زوجها من ويلات ومرارات ناضلت لتتعلم وتتفوق، وكان لها الفضل في أن تعيد نبض الحياة وبريق الأمل إلى أسرتها المنكوبة).
نعود للكاتبة، التي تواصل سرد روايتها فتنقل المكان والحدث والزمان.. (في منزل الخضر صوت سناء يمزق سكون الليل آآآخ حلقي.. ما قادرة أتنفس.. يا الله .. يا رب.. وتبدد الصوت في الفضاء ورائحة البارود تتصاعد.. تملأ المكان.. وأوراق البنفسج تصفّر بسرعة قبل أوان الذبول).
حقيقة الرواية يحتاج أن يقرأها (آدم) قبل (حواء)، ليرى كيف أنه يسمم حياة (حواء), تارة بغلظته، وأخرى بسلبيته، وثالثه بأنانيته، ومرة رابعة بغفلته. وخامسة بتردده وسادسة وسابعة… ويتعدد التسمم والنتائج واحدة امرأة مغلوبة على أمرها تعيش الحياة كما يريد (آدم).. ولكن انتصرت البطلة “زهرة” للمرأة وانتزعت حقها انتزاعاً.. حقها في التعليم.. وحقها في العمل.. وهكذا ملكت قرارها.. ومن تملك قرارها تملك ذاتها.
} (متأسفة) هو اسم الديوان الأول للشاعرة الصحفية “داليا إلياس”.. قدم له الشاعر “التجاني حاج موسى”.. (داليا إلياس صوت شعري شاب وأصيل, قادم إلى عالم الشعر السوداني بقوة ويشكل إضافة شعرية حقيقية ومختلفة للشعر الغنائي تحديداً، وترفد قبيلة الشاعرات النسائيات بوجه جديد يزيدهن إشراقاً. آثرت الشاعرة أن تنظم أشعارها بالدارجة السودانية الوسطية المحببة).. ويواصل “ود دار السلام”- المرأة الرمز- قائلاً: (وداليا أيضاً طرحت العديد من القضايا الاجتماعية بأسلوبها الخاص).. يقع الديوان في عدد (80) صفحة من القطع المتوسط ويحتوي على (34) قصيدة.. تناولت الشاعرة قضايا مختلفة وكان للأم نصيب الأسد من القصائد، حيث تقول: إلى أمي الرائعة “علوية سعدين”:
دايرة أقول أنا فيك كلام… ويا أمي ما بتكفي الجمل
يا ضاحكة في وجه العلل
قبلانة بي حكم الإله… متوسدة الخير والأمل
كم جابهت هموم العيشة … وكم صديت صعاب ومصيبة
زرعت في أرض الطيبة شتولك
لو كل (الأُمات) اجتمعن…
ورصوا حنانم رص… وارتفعن
فوق الرصة حنانك راس… يا أم الكل
وتمضي “داليا” وتتدفق العواطف الصادقة للأم “علوية” وكل الأمهات في قصيدة ثانية بعنوان (يا ستهم):
يا مقنعي ويا توب غتاي… أنا أصلي ما ردتك براي
كل الحبايب والأهل… والصحبة والجيران معاي
رادوك عشان ما ليكِ زي… يا سر وجودي وسر هناي
وعشان حنينه وفيكِ جود… وأصيلة تكرمي جاي وجاي
وقصيدة ثالثه للأم, تترقرق حروفها جداول تروي لا يظمأ أبداً من ينهل منها.. تقول الشاعرة:
الأم.. الحب.. الصدق.. الأمن.. المهد.. الوعد
الحرس الحامي الكلو تفاني
الولدت وربت.. وشالت وختت.. وسهرت وقلقت
وأدت ومدت.. وخافت وفرحت.. لا يوم كلت.. لا يوم ملت
لا يوم فترت.. لا يوم زفرت.. لا يوم قالت كاني وماني وإيه خصاني
الأم الغالية… العالية… المالية الفجة… ووكت الشدة برزت وركزت.. ومسحت عنى دموع أحزاني
(مايقوما) قصيدة لم تُكتب بالحروف، بل بنتها الرائعة “داليا” من (اللحم الحي)، وتحدثت عن مصير مجهول ينتظر هؤلاء الأبرياء، وعن أم عديمة إيمان لا بتطرى لا بتندم، وأب هارب من أبوته.
(بيوت) قصيدة رُصت حروفها من مختلف مواد البناء الثابت والمتحرك, الشاعرة.. بحثت.. استأذنت ثم دخلت:
بيوت الدنيا مختلفات… ما كل البيوت واحد
في بيت دااااااااااااافي… وبيت باااااااااارد
وبيت عمران هوى وتحنان… وبيت جااااامد
بيوت عدمانة من الود… زمن مسكونة بالأحزان
بيوت متروسة مال وأثاث
وخالية من الأمل والناس
بيوت لا لمبة لا بوتوجاز
وناسا لطاف حُنان ولُذاذ
بيوت البهجة عنوانا… وطول اليوم ضحك وهزار
بيوت طوالي حرقاني
مولعة زي تقول من نار
في بيت مسكون… وبيت فاضي
وبيت جاحد… وبيت راضي
في بيت سكانو متآلفين على الحلوة وعلى المرة
وبيت سكانو مختلفين وما بيتفقوا بالمرة
في بيت ستو مرة ضيفان… مرة سترة
ما بتستاهل الهجران.. ولا بتستاهل الضرة
وبيت ستو دوام بتباري في النسوان
لا بتعرف تكرم الضيف ولا بتورق الخدرة
وياما… وياما… تلقى بيوت
وكل ناس البيوت بتموت
ويبقى البيت شبر واااااااااحد
} وهكذا شهدت الألفية الثالثة بحمد الله تعالى إنتاجاً نسوياً غزيراً في مختلف ضروب الإبداع، ونحن هنا بصدد الحروف التي خرجت من تحت الوسائد والخزائن والصدور.. أتمنى المزيد من الإنتاج لحواء السودان المبدعة.