حوارات

(خادم الموتى) العم "العبيد الخضر" يحكي أسرار وخفايا (القبور)

عند أول منعطف فى قلب حي القوز الخرطومي العريق جنبنا عربة الصحيفة في رحلة بحث عن العم “عبيد الخضر عبد الله” ، سأل سائق العربة “والي الدين” شاباً كان يندس داخل (ركشة ) عن المنزل، فرمقنا بنظرة غريبة قبل أن يشرع في الوصف (الشارع الثالث يمين في شمال قبالة مسجد مربع (6)، فالعم “عبيد الخضر” الذي توجهنا صوب منزله ليس بشخص عادي، ومهنته في خدمة الموتى هي التي قادتنا إلى مشوار البحث عنه لننقب عن خفايا مساكن الموتى (المقابر)، وكيف بدأ حياة عامرة بخدمة الأموات قبل (70) عاماً، وعن كيفية الدخول إلى عالم الأموات، حفراً ودفناً ونبشاً وبحثاً عن قبر مجهول.
دلنا الشاب الذي سألناه بأنه يمكننا السؤال مجدداً عند ما نصل نهاية الشارع الثالث، وقد كان حسبما وصف لنا وسألنا شاباً آخر كان يشرب من (سبيل) فأرشدنا بقوله: (أرجعوا إلى الخلف وأطرقوا تلك البوابة (الحمراء). ثم أردف ضاحكاً: مالكم ميت ليكم زول ولا شنو)؟. ومضى قائلا : (مافي زول بسأل من عم “عبيد” إلا عندو جنازة!)، فرددناه (دي مناظر ناس عندهم جنازة ؟ )، ثم طرقنا الباب ودخلنا بعد استئذان أهله الذين كانوا يغطون في قيلولة، أقلقها مجيئنا دون سابق وعد، لكنها كانت لُقيا خير من ألف ميعاد.

رائحة الموت في منزل “عبيد” !!
رغم أن منزل حفار القبور المخضرم العم “عبيد خضر” تنضح جنباته برائحة الموت والتذكير به، من خلال الكفن الذي يتوسد خزانة الملابس، وأدوات الحفر ومن بينها (الكوريك ) الخاص بـ (ود الأحد) والبلاط الذي يرص عليه يتكيء على حائط المنزل، والوابور الصغير الذي يستخدمه ليلاً للإنارة، رغم أن رائحة الموت تحيط بكل جنبات المكان إلا أن حياة نابضة وروحاً طيبة تجدها عند أهل الدار. عم “عبيد” وزوجته وبعض أصدقائه الذين يلتصقون به، يستمتعون بقصصه التي يحفظونها عن ظهر قلب حد مشاركته الحكي، يعيشون حياة بسيطة وهانئة تلمسناها خلال المدة التي جلسنا فيها إليهم ، وقد أمتعنا فيها بقصص تاريخية عن الزمن الجميل، وذاكرته الفولاذية ومخيلته النشطة تسعفه بين الحين والآخر، فينساب حديث الذكريات عن ممارسة الحرفة وغيرها من حرف، رقراق سلساً يشبع الروح والعقل حد التخمة وما زال منها متسعاً، اكتفينا منه بهذا القدر على أن نعود إليه مرة ثانية في جوانب أخرى.
بداية مشاور خدمة الموتى..
أول بدايات العم “عبيد” في دفن الموتى كانت منذ العام 1937م وهو من مواليد حي القوز، ورغم أن صلاحياته تنحصر في مقابر الرميلة بمنطقة الديوم الغربية بتكليف من (منظمة حسن الخاتمة ) مع زميليه “عابدين” الذي يعني بمقابر “حمد النيل” و”درمة” بمقابر “أحمد شرفي”، ومع ذلك فهو يجوب مقابر عدد من الأحياء مثل حلة حمد وخوجلي وبري (بابور والدرايسة والشريف) و”ودقرنج” اللاماب بحر أبيض أبو حلوف، الكلاكلة القبة، بل يتم إستدعاؤه إلى ما بعد الشقيلاب والدخينات. وتعلم العم “عبيد” الحفر كما روى لنا من أحد أوائل الحفارين وهو “محمد جبر السيد” وهو شخص (مشعر) بحد وصف “عبيد” يكسوه الشعر من أخمص رأسه وحتى قدميه. ويمضي في سرده أن مقابر الرميلة عمرها (350) عاماً، أقدم من مقابر فاروق والصدرية التي كانت بالسكة حديد وحتى مجلس الوزراء سابقا بالقرب من مستشفى الأسنان، وأخرى عند صينية بري ومقابر الخرطوم والديم. ومن المقابر القديمة أيضا مقابر (ترب بلاع ) مكان مركز شباب السجانة حالياً وقد حلت محلها مساكن . ومقابر اللاماب وكانت تسمى (أبوحلوق) وعندما أنشئت خصصت للري المصري، وكانت فيها (أم عيش) والمقابر تسمى (الحماداب) ، ومضى بقوله لكن في العام 1937م تم ترحيلها قرب القضيب وأصبحت امتداداً للري المصري والمنطقة الصناعية، وأول منطقة في الخرطوم (سلاح المدرعات) قبل الحالية، وتحولت ترب”بلاع” بالسجانة أيضاً لمساكن .
قبر جثمانين في حفرة واحدة !!
وبمقابر الرميلة وغيرها قام “العم عبيد ” بدفن أعلام من الشيوخ، سواء أكانوا مواليد القوز أو ما جاورها، منهم الفكي الدراوي “فقير” ، والفكي حمد الأمين ، الضرير الدنقلاوي ،”الخليفة حسن وأولاده ” وهو ود الشيخ النذير المدفون في أم ضوبان ، وكذلك حاج “حسن البلولة”.
الآن وكما يروي لنا العم “عبيد” امتلأت مقابر الرميلة، ولم يتبقَّ هناك موطيء لقدم، لكنا و(الحديث لعبيد) وبعون الله قادرون على الدفن بها لعشر سنوات قادمة، وعن كيفية ذلك ؟، يقول إنهم يدفنون اثنين في حفرة واحدة ولكن لكل منهما (ود أحد منفصل). ويضيف أنه وبخبرة تراكمية يتحسس الأرض بـ(نقرة) معينة لتبين له ما إذا كانت الأرض مستغلة من قبل أم لا. ويشرح ( نضرب على الأرض بمعاولنا برفق ونحسب ثلاث سنتمترات من القبر أو ود الأحد المجاور، ولنحدد قبراً جديداً لندفن فيه). ويمضي “عبيد” قائلا ( المقابر الآن تحتاج إلى تعلية السور الذي بناه ضابط إداري مجلس الخرطوم سابقاً الأستاذ “على منصور”، وسبق لنا أن أخطرنا السيد المعتمد ورفاقه عندما تفقدوا المقابر إبان السيول والفيضانات في الخريف الفائت إلى جانب ثلاثة بوابات ، ووعدونا بذلك لكن حتى الآن لم يرجع إلينا أحد للوفاء بإلتزامه! .
تتعدد وتتبدل الطقوس والعادات والموت واحد
العم “عبيد” يأخذك بحديثه الجاذب لعوالم أخرى كأنه لا يتحدث إليك عن الموت الذي اعتاد على سماعه ومعايشه الموتى وزيارتهم في كافة الأوقات، فقال لنا دون أن نسأله (طبعا أنا زمان كنت عربيد، أشرب الخمر، وألعب الميسر، وكذا السجائر بكل أنواعه ، لكن الحمد لله الآن تبت)، وهنا قاطعته بالسؤال الكلام ده قبل ما تبقى حفار وساتر للموتى ؟، فردني بمصداقية : أبداً أنا كنت بعمل الحاجات دي وأنا شغال في شغلي ده، أكون نائم وسكران يصحوني يقولوا لي في جنازة أقوم بسكرتي دي وأسترها. وحتى بعد ما حجيت وعمرت لم أتوقف عنها، لكن الحمد لله ربنا تاب على لاحقاً، وطبعاً قبل كده أنا كنت راعي ، أجوب الخرطوم من أقصاها إلى أدناها ، أعرف كل طرقاتها وسكناتها .
وقبيل أن أغادر هذه الجزئية من حديثه، سألته عن مدى تأثره وتفاعله بما يقوم به، وبمعنى أصح عن حادثة أو طريقة موت أثرت فيه. وبكل برود ودون أن يرف له جفن قال : (نهائي ما في وفاة أثرت فيني أنا بدفن لي ناس مقطعين حوادث بما فيهم أهلي وإخواني، لكن يوم واحد ما رجفت أو نزلت مني دمعة) .
الدفن في الماضي ..
عدنا بالعم “عبيد” إلى المربع الأول وهو كيفية الدفن قديماً وحديثاً، وما إذا كانت هناك متغيرات طرأت، وعن الطرق والطقوس لدفن الأجانب وغير المسلمين فقال : (نفس الحفر لكن زمان كان واسع متر ونص للعرض ومترين للطول، هسي بقى (80 سم) ، وزمان كنا بندق الطوب ذي الجملون لود الأحد، وبكون لين لكن لو طلع فيهو لوري ما بهدوا، وحالياً بقينا نستعمل البلاط (50 ×50 ). وبالنسبة لدفن الأجانب والجنوبيين فهؤلاء ليهم طريقة دفن معينة بحسب طقوسهم، فمثلا الجنوبي بكون الرأس قدام والأرجل للخلف، يعني الوجه ناحية الصعيد وما بعملوا (ود أحد) بلفوا بأي شيء يبردوا ويكفنوا ويختو ليهو خمسة بلاطات ، والخواجات الأغاريق والأقباط نفس النظام لكنهم يدفنوا بالتابوت)، واستطرد “عبيد” بأن كيفية الدفن لم تتغير لوحدها إنما طريقة البكاء نفسها شملها التغيير، وزمان كان الردحي والحي ووب وخم الرماد والتراب وصبه على الشعر. ويمضي في حديثه (هسي بقى بالتلفون)، وحتى طريقة الفراش ما ذي زمان لما الناس الخيرين وناس الحلة كلهم يتساعدوا في الفراش الكان فراش حقيقي في الأرض، حتى أنهم كانوا بشيلوا هدومهم بعد الثالثة أو الرابعة ويمشوا يغسلوها في البحر من كترة رقاد (الواطة) وهو ما يسمى بـ(يوم الغسيل).
قصص وحكاوى مع الموتى ..
وفي معرض رده عن المواقف التي مرت به أثناء الدفن عن حقيقة ما يشاع بأن البعض من الأحياء يضعون (العمل والسحر) في قبور الموتى، ليضمنوا عدم فك (العمل) وكذلك المواقف الغريبة. حدثنا العم “عبيد” مستشهداً ببعض القصص، وبدأ السرد ( كنا عند بوابة المسلمية حيث يوجد بابور الماء، نقوم بنقل رملة لحي نمرة اتنين الحالي وسابقا (ديم سلك) وكان معاي سواق اللوري اسمو حاج أحمد شاهين، نغرف التراب من حفرة غريقة فجأة كده ظهرت لينا جثة امراة عارية وعيونها عسلية مفتوحة، فأسرعنا بتكفينها ودفنها جوه مقابر الصدرية.
حكاية الموية التى تسربت من قبر امرأة ..
وفي مقابر الرميلة دفنت امرأة من الكلاكلة وكانت بدينة وبعد يومين توفيت امرأة أخرى إسمها ” بت الدرديري” وأثناء حفرنا لقبرها تسربت إلينا موية كثيرة من قبر البدينة التي دفنت مسبقاً، وكانت صافية لدرجة يمكن تشربها، وبعد انتهاء مهمتنا ومشيت لأهلها وقلت ليهم عاوز أعرف المرأة دي كانت بتعمل شنو، قالوا كانت مقيمة في مكة ولما تجي السودان تتدثر وتلف في الليل على بيوت الفقراء والمساكين وتديهم الفيها النصيب.
على أن أغرب القصص التي أتانا بها حفار القبور العم “عبيد” كانت لفتيات حضرن إليه من مدينة بحري بالخرطوم، وتحدثت إليه إحداهن بعد أن سألت عن اسمه ومكان إقامته، وهي المرة الأولى التي تزور فيها (الرميلة)، وقالت إنها وحيدة والديها وأنها تريد قبر فلان الفلاني الذي رأته في المنام، وإنها لا تعرف القراءة لكنها تعرف مكانه والعلامة التي تقصدها، وعندما أدخلوها وتبعوها وقفت عند القبر المعني وهي تشير إلى العلامة وهي عبارة عن باب عربة قديم ، فأزاحت الأبلكاش وانحنت والتقطت كيسين أبيض والثاني أسود اللون ، وبفتحهما وجدت الورق فسألتها : ده عملك ؟ فقالت : هو وطلبت مني وضعه في الشنطة ، ثم انخرطت في بكاء شديد .
ثم طفق يعدد أنواع “العمل” الذي يجدونه فمنه ما يوضع في قرن معزة وآخر في فتيل جلسرين، وفي قرعة وعلبة صلصة وبعضه على البيض . ثم يتخلصون منه بمساعدة زوجته “هدية شيخ إدريس ” بغسله بموية الملح ومن ثم نثره في الهواء.
معينات قبر .. ومواهب متعددة
وكما أسلفنا فإن منزل الحفار” عبيد” معد ومجهز بكافة مستلزمات ستر الموتى، من كفن وبلاط ومعينات حفر مشيرا إلى أن هناك (كوريك) خاص بـ(ود الأحد) ، ويشتري القماش من سوق أم درمان كلما ساقته الصدفة إلى هناك، يفعل ذلك تحسبا للوفيات التي تحدث فجأة أو عند منتصف الليل، فيستعين به أهل الميت فيعطيهم حاجتهم منه، فإذا أعادوه قماشا أو نقدا أخذها وإذا لم يعطوه لا يسألهم، وكذا البلاط الذي يخصص له غرفة في منزله ، فضلا عن “موتوسيكل” يركنه داخل منزله يساعده في سرعة الحركة والتنقل. وبالنسبة للبلاط يسأل “عبيد” أولاً عن حجم الميت طوله وعرضه وعليه يحدد عدد القطع منه.
العم “عبيد” بعيداً عن المقابر ..
العم “عبيد” يتمتع بنشاط وحيوية لطلاقة وجهه ومقابلته ملمات الحياة ببرود، رغم اقتراب سني عمره من المائة عام، فهو قد امتهن وما زال يمارس عدداً من الأشغال إلى جانب حفر القبور التي نذر لها عمره حد إنقطاعه عن مواصلة الناس خيفة أن تعقبه (جنازة ) . فعمل نقاشاً ومقاولاً، وخدم في ميدان الفروسية ، إضافة إلى صنعة أخرى احترفها بامتياز منذ أمد بعيد وإلى الآن وهي (الطبخ ). فقد كان طباخا للجيش الإنجليزي فترة الحرب العالمية في القيادة العامة التي كان يطلق عليها (سودان أبروز ) وهي محطة طائرات حربية ، قبيل إنشاء المطارات، يطبخ لهم عدداً من الأكلات المحلية والعالمية مالحة أو محلاة. وقبل أيام قليلة وبحسب قوله : حضر إلينا طبيب بيطري وطلب منا إعداد تسعين كيلو سمك (تحمير عادي وبالفرن) أكل منه الرئيس “عمر البشير” ومساعده “عبد الرحمن الصادق المهدي”، وأثنوا عليه ويطبخ أيضا لجامعة الخرطوم في المناسبات وشهر رمضان نزولا على رغبة الجهات الراعية، والخيرين ومنهم صاحبة طلمبة النحلة التي يطبخ لها ويعد إفطار رمضان وبدورها توزعه كيفما يتفق.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية