حوارات

القيادي بالمؤتمر الوطني د. "ربيع عبد العاطي" في حوار الصراحة مع (المجهر):

(لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مريبة، وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية، فازدادت حدة التضخم بصورة لم يسبق لها مثيل واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم، إما لانعدامها أو لارتفاع أسعارها، مما جعل كثيراً من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة. وقد أدى هذا التدهور الاقتصادي إلى خراب المؤسسات العامة وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية وتعطل الإنتاج و….). الفقرة أعلاه لا تصف الوضع الراهن، وإنما هي فقرة من البيان الأول الذي تلاه العميد “عمر حسن البشير” صبيحة يوم انقلاب 1989م..
طاف بخاطرنا ذلك البيان فقلنا للدكتور “ربيع عبد العاطي” في مفتتح هذا الحوار.. إن الواقع الآن – بعد (24) سنة من حكم الإنقاذ – يشهد ما يشهد من أزمات اقتصادية وغلاء وفاحش ومتزايد.. فبماذا يترافع عن الإنقاذ..
كما عرج الحوار إلى الرسالة التي بعثها له “صلاح كرار” في حواره مع (المجهر).. إذ قال له فيها: (تذكرني وتذكر رسالتي لك في 97).. فبماذا ردّ د. “ربيع عبد العاطي”؟

} المشهد بعد (24) سنة من حكم الإنقاذ بعض تفاصيله: ضائقة معيشية كبيرة غير مسبوقة، واقتصاد على وشك الانهيار.. وأنتم قلتم إنكم تقاومون انهياره بهذه الإجراءات الاقتصادية الأخيرة.. والجنوب ذهب.. و(أبيي) مشتعلة وهي على وشك الذهاب.. هذه التفاصيل ألا تعني أنكم فشلتم فشلاً كبيراً؟
– أولاً أنا ضد الأحكام المطلقة، ودائماً إذا ما حاولنا أن نحكم على نظام أو شركة أو على مؤسسة ينبغي أن نستقرئ التاريخ، التاريخ البعيد وليس التاريخ القريب، فإذا حاولنا أن نتحدث عن الضائقة المعيشية في الإنقاذ، فعلينا أن ننظر إلى ما قبل الإنقاذ، إلى الضائقة المعيشية عندما كان السودان فقيراً، عندما كانت محطات الوقود خارج الخدمة، عندما كانت المخابز خالية من الخبز، عندما كانت المطاحن خالية من الدقيق.
} وعندما كانت الديون الخارجية (13) ملياراً فقط.. والآن قفزت إلى (45) ملياراً؟
– ولكن (13) ملياراً أيام زمان، والجنيه أيام زمان هل هو الجنيه الآن؟
} لكن الدولار هو الدولار..؟
– الدولار ليس هو الدولار ولا الجنيه هو الجنيه، الدولار كان بقيمة الجنيه، والذي يمتلك (7) جنيهات كان بإمكانه أن يشتري في الخمسينيات والستينيات شارع النيل كله، وبإمكانه أن يكون اليوم من أصحاب المليارات.
دائماً ينبغي أن نكون على قدر من الموضوعية والواقعية، الضائقة المعيشية التي كانت في السودان انسحبت على كل شيء، انسحبت على الطرق التي كانت مهترئة، وكانت لا تتجاوز الـ (200) كلم في كل أنحاء السودان، والآن آلاف الكيلو مترات.
وانسحبت على الكهرباء التي كانت في العام (88) أقل من (100) ميقاوات بكل أنحاء السودان، وكان الإطفاء ظاهرة غير مستغربة. والآن الكهرباء في القرى وفي المشاريع الزراعية وحتى المصانع، وبالتالي لا يمكن أصلاً أن نقول إننا في ضائقة معيشية أكثر من ما كنا عليه من ضوائق.
نحن نقول إن الـ (10) سنوات الماضية شهدت نهضة، وأنه بالرغم من خروج البترول من الإيرادات لم نصل إلى تلك المرحلة التي كنا نعيشها قبل الإنقاذ، والناس بعد اكتشاف البترول تعلموا الكثير من العادات.. الوفرة.. السيارات زاد عددها.. الناس شيدوا الكثير من الأبراج والفلل وتوسع رأسي وأفقي.. وبنية أساسية وممتلكات عامة وخاصة..
أنا لا أسميها ضائقة وإنما تأثرنا بفقدان الذي كنا نستمتع به عندما كان سعر الدولار جنيهين و(3) جنيهات، والآن الأمر لم يعد كما كان.
} عندما تقول إنك لا يمكن أن تسمى ما يعايشه الناس الآن ضائقة.. تبدو وكأنك لا تشعر بما يعانيه الناس!
– أنا لا أقول ذلك.. أنا لا أقول إننا لا نحس بالناس.. بالتأكيد نحن في ضائقة.. ولكننا لسنا في ضائقة كالتي كنا عليها نحن كُنا على أرض يباب.. ولكن دائماً عندما يتعود الناس على حياة معينة وفجأة هذه الحياة التي كانوا يستمتعون بها تتأثر وتتأثر الخدمات ولا يستطيع الناس أن يواكبوا بحسب دخولهم.. هل تتفقين معي أننا كنا في يوم من الأيام…
} أنت تعني (البيتز) و(الهوت دوق).. الناس تعودوا عليها؟
– لا.. أنا أعني الغذاء العادي.. أنا لا أتحدث عن (هوت دوق) ولا عن (بيتزا).. أنا أتحدث عن الخبز العادي والسكر العادي.. السكر كان بالأوقية.. وكان الناس يكتفون فقط بنصيبهم المحدد كل أسبوع في التعاون.. هذا كان قبل التسعينيات.
} هذا كان في فترة محدودة..؟
– لا.. لم تكن فترة محدودة، مسألة التعاونيات أنشأها “النميري” وكان الناس يتلقون الغذاء وحتى القماش عبر التعاونيات.. أنا لا أتكلم عن فترة محدودة وإنما عن فترة طويلة جداً.. يعني في هذه الفترة استطاعت الإنقاذ أن تقضي على معظم الأزمات تماماً.
حتى قبل التسعينيات الناس كانوا يتراصون صفوفاً منذ الصباح الباكر.. والسيارات كان تكون متراصة في محطات الخدمة المحدودة جداً لمدة (10) أيام، وكان الإطفاء في مدينة الخرطوم يستمر لأيام وشهور، لا كهرباء ولا مكيفات ولا إنارة، وكان الناس وحتى عهد قريب يصلون (بورتسودان) قبل طريق (عطبرة – بورتسودان – هيا) ربما في (3) أيام، وكان الناس يصلون الشمالية في (3) أيام، الآن يصلونها في (3) ساعات ونصف الساعة. هنالك تطور.. ولكن أستطيع أن أقول إن وتيرة التطور تراجعت، وذلك لأسباب معينة سواء أكانت تتعلق بالأزمة المالية العالمية أو لأسباب خاصة بخروج إيرادات البترول.
} التأثر بخروج إيرادات البترول نفسه.. يعبر عن فشل.. البترول بددت أمواله ولم تستغل استغلالاً جيداً؟
– أنا – كما ذكرت لكِ – لست ميالاً للأحكام الجزافية، وإنما أقول إن المسألة تعتمد على أن هناك ايجابيات بالتأكيد وهناك سلبيات وأن هناك تجارب ثبت أنها تجارب يجب أن تستمر، وأن هناك بعض التجارب وبعض الخطط التي اعتمدناه وثبت بالدليل القاطع أننا في حاجة إلى إبدالها، سواء أكان الأمر يتصل بالاقتصاد أو بالسياسة أو بغير ذلك، وبالتالي أنا أقول إنه لا يوجد هناك نجاح مؤلف ولا فشل مؤلف، ولكن المسألة نسبية. وأستطيع بكل جرأة أن أقول إن الذي كنا عليه في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة لم يعد مستمراً لأن هناك أسباباً موضوعية هي التي جعلت وتيرة معدل النمو يتراجع وكذلك بعض الخدمات تتراجع.
أيضاً عندما نقول إن إيرادات البترول قد خرجت.. نقول إن الإنقاذ كان ينبغي أن تضع حسابات محددة حتى لا يكون التأثر بالنسبة التي نراها الآن.. هذا هو الحكم الصحيح.
} الإنقاذ أهملت موضوع سداد الديون الخارجية.. ماذا لو أن أموال البترول تم توجيهها فقط لسداد الديون الخارجية؟
– هناك بدائل.. دائماً في الاقتصاد هناك بدائل.
} مقاطعة: الديون قفزت من (13) ملياراً إلى (45) ملياراً.. من سيقوم بسدادها؟
– نعم، كانت هناك ديون خلفت من عهد “النميري” ومن الأنظمة السابقة (22) ملياراً، لكن (22) ملياراً كان يمكن أن تبني السودان لو استغلت استغلالاً رشيداً.. ولكان السودان في مصاف الدول المتقدمة لأن (22) ملياراً آنذاك..
} مقاطعة.. هي 13 ملياراً؟
– (22) ملياراً فقط، الديون التي تركها نظام “جعفر نميري”، ولكن نحن نتحدث عن معدل النمو في السودان.. رؤية الاقتصاديين أن معدل النمو عالي جداً بالمقارنة بما كان عليه السودان.. فمتوسط نصيب الفرد في العام (89) من الدخل القومي كان (500) دولار فقط، الآن تجاوز الـ(2000) دولار.. هذا نصيب الفرد في الدخل القومي.. أنا لا أتحدث عن مرتبات هذه هي المعايير الاقتصادية، وبالمناسبة بعض الناس يقولون إن هذا الدخل القومي للفرد لا يتناسب مع الدخول الشهرية.. بالتأكيد نحن نحتاج إلى إعادة توزيع الدخل القومي.. يعني بالإمكان أن نقول نحن بحاجة إلى إعادة هيكلة الوظائف وإعادة توزيع الدخول وإجراء مراجعات.. لكن هذا الرقم صحيح.
} دكتور “ربيع” ما هي قصتك مع “صلاح كرار”؟
– قصتي مع “صلاح كرار” هي قصة كونه وكيل نيابة وقاضياً ووزيراً في نفس الوقت، قصتي معه تعود إلى العام (94) وليس العام (97) كما ذكر هو في حواركم معه.. أيام كنت مغترباً وكنت بالجالية السودانية في (المدينة المنورة).. كنا مجموعة من الأشخاص استجلبنا معاصر زيوت إلى السودان، وكان من بيننا بعض الذين يعارضون النظام هناك والتقوا بـ”صلاح كرار” هناك حينما ذهب إلى الحج.. وذكروا له أننا لم نسلمهم المعاصر وإننا قد خدعناهم.. فحاول “صلاح كرار” – كما يفعل دائماً حتى في خروجه الأخير – أن يتظاهر بأنه هو النزيه الأوحد.. وعاد إلى السودان وكتب: (يتم اتخاذ الإجراءات القانونية لصالح الحفاظ على حقوق المشترين).. ومن هذه العبارة التي كتبها يتضح أنه يريد أن يصبح وكيل نيابة وقاضٍ.
وعندما حُولت القضية إلى وكيل النيابة المرحوم “عثمان كولا” التقى هؤلاء الأشخاص وطلب منهم إما أن يتسلموا المعاصر أو يستردوا أموالهم.. وبالفعل وافق (3) منهم على تسلم معاصرهم ورضوا بالاتفاقية، وبقية المعاصر بيعت بعد ذلك ومن حسن الحظ بيعت بثلاثة أضعاف سعرها.. ووكيل النيابة اتصل بوزير العدل وقال له: (لا توجد قضية على الإطلاق)، وقال له (ما دخل “صلاح كرار” بالموضوع)؟ وحقيقة أنا لا أستغرب موقف “صلاح كرار”.. وهذا يتجلى حتى في ما حدث بمطار الخرطوم في تلك الفترة، عندما قُبض على أحد الطيارين ومعه مبلغ (10000) دولار وأريد أن تتخذ معه الإجراءات، لكن “صلاح كرار” الوزير والقاضي ووكيل النيابة حدد المادة وحكم فيها وقال (عدم كفاية الأدلة وأن المبلغ بسيط وأنه لا يرقى على محاسبته إدارياً).
و”صلاح كرار” قال لي – عبر لقائكم به – تذكرني وتذكر رسالتي لك في (97). وأنا أقول له وأنت تذكر حين قمت بطرد موظف (سكرتير ثاني) من السفارة السودانية بـ (البحرين).. دون ذنب جناه.
} ما قصة ذلك الموظف؟
– “صلاح كرار” أعتقد أنه أصبح الآن عدواً لكل الذين كانوا يتحملون أخطاءه وهناته وأناته.. وأقول له إن كبير القوم لا يحمل حقداً، كُنا نأمل أن تكون كبيراً.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية