تجربة قاسية في الغربة
الكثير من الذكريات خلال فترة اغترابي أرى في نشرها فائدة لأبنائي خاصة الذين يحلمون بالاغتراب، ما زلت حتى اليوم أتذكر ما حدث في هذا الموقف الذي كان من الممكن أن يصبح حرجاً لولا لطف الله.
كان ذلك في أول أسبوع لي بالسعودية عندما جاءني زميلي الفلسطيني في العمل ليطلب مني الاستعداد لأداء دور المترجم الفور في اجتماع مدير القاعدة ومدير شركة (صيانكو) الأمريكية التي كانت تتولى برنامج صيانة أسلحة الجيش السعودي، قلت له بعفوية لا أزال جديداً ولا معرفة لي بأسرار العمل ومصطلحاته فلماذا لا تتولى أنت الترجمة؟ فقال إنه لديه موعد مع الطبيب مرافقاً لزوجته. ولم يترك لي أي فرصة لمزيد من النقاش لأنه خرج من المكتب ومنه لمنزله.
ومنذ تلك اللحظة ركبني الهم خاصة أنني في أول أسبوع من الفترة التجريبية ومدتها ثلاثة أشهر، أخذت أتخيل خطاً من الترجمة لأن الأمريكان لديهم لكنة مختلفة، وهم يظنون المترجمين بنفس مستوى مترجمي الأمم المتحدة، ولن يقبلوا أي غدر، رغم أن موعد الاجتماع كان الساعة الثامنة صباحاً، إلا أنني استيقظت مبكراً ووصلت المكتب في وقت مبكر كأنني أحاول الدخول في جو العمل.
وكعادة الخواجات جاء في الموعد تماماً، فتظاهرت أن الأمر لا يعنيني متصوراً أنه جاء ومعه مترجم متخصص، وأنهم سيعفونني من هذه المهمة، ولكن الملازم خرج من الغرفة ليستدعيني، فقلت إنه آخر يوم لي في عالم الاغتراب. وكنت قد قرأت سورة يس قبل التحرك ودعوت الله ليوفقني، وما إن دخلت حتى نهض الخواجة، وفتح صندوقاً صغيراً أخرج منه هدية قدمها لمضيفه السعودي، بالطبع قمت بترجمة هذا الجزء فوراً.
واستمر الاجتماع الذي كان في معظمه شكوى من العقيد السعودي من التأخير الذي يجدونه من إدارة الشركة في الاستجابة لطلباتهم بالتصديق لاعتمادات لإنجاز بعض الأعمال الضرورية، ورد المدير الأمريكي أنه لأول مرة يعرف بهذا الأمر، ولكنه وعد بالنظر في هذا الطلب، وتشعب الحديث في زوايا متعددة، واحتد النقاش لبعض المواقف، فكنت أحرص على أن تكون لغتي هادئة ناقلة لكل المعنى.
وكنت مع كل جملة أدعو الله أن يتحدث الضيف بلغة مفهومة، وقد استجاب الله لدعائي، فلم يستخدم الضيف كلمات من العامية الأمريكية ولم أجد صعوبة في الترجمة، ولم يخف الضيف إعجابه بترجمتي فشكرني في نهاية الاجتماع على حسن الترجمة، وطلب نقل ذلك إلى العقيد، واستمر الاجتماع لحوالي ساعتين كاملتين كنت خلالهما أترجم دون توقف.. وبعد الاجتماع فوجئت أن الفلسطيني كان موجوداً في المكتب، ولكنه اختفى في قسم آخر.
بعد هذا الاجتماع أوكلت لي مهمة الترجمة في المحاضرات الخاصة بدورة السلامة، وهي دورة للجنود، فكنت أحضر للمكتب ثم أذهب إلى المحاضرات، وأظل واقفاً على أقدامي لساعتين أو ثلاث، بينما كل زملائي يجلسون على مكاتبهم المريحة المكيفة. وكان عليَّ أن أقف وسط حرائق يشعلها الخواجة، وأظل واقفاً وسط اللهيب حتى انتهاء التدريب. وكان على شرح الدرس وليس فقط الترجمة. وفي آخر يوم للفترة التجريبية لم أصدق عيوني، وأنا أقرأ تقرير مستر “هكس” عني، لقد أشاد بي حتى أخجلني.. بل إنه أعطاني التقرير لكي أضيف ما يحلو لي.
قالوا.. ونقول
قالوا: المترجم الذي يعمل في السعودية عليه أن يكون في مستوى مرتفع ونقول: بعون الله يتم هذا الأمر بسهولة.