حروف في ذكرى الشاعر الراحل «صلاح أحمد إبراهيم»
الكتابة عن أديب وشاعر كبير مثل الراحل “صلاح أحمد” متداخلة ومتشابكة، فالرجل موسوعي المعرفة ومثقف من الطراز الأول، ولولا تواضع عظمائنا من قبيلة الإبداع السوداني لكان له شأن وأي شأن في الثقافة العربية والأفريقية تجعله متبوئاً موقعه مع المعاصرين وكتاب وصلوا للعالمية بسبب إبداعهم، مثلما فعل صديقه الروائي السوداني العالمي “الطيب صالح”.
قبل أسابيع اتصلت عليَّ الفضلى “صفوة العاقب محمود” من أسرة الراحل “صلاح أحمد إبراهيم”، بعد أن كلفها شقيق “صلاح” صديقي “محمد الهادي أحمد إبراهيم” الذي يعمل منذ سنوات بإحدى دول الخليج. و”الهادي” (من دورنا)، نشأنا وكوكبة من الأصدقاء جمعنا حي (العباسية) بأم درمان، وعبره تعرفنا عن قرب على شقيقه الراحل “صلاح”. فرحت فرحاً عظيماً حينما أخبرني “الهادي” أنه عائد لدوحة الوطن ليكرس كل وقته لتفعيل مركز “صلاح أحمد إبراهيم” الثقافي عقب وفاته في 17/ 5/ 1993م، فقد اجتمع وقتها نفر كريم من أصدقائه وأهله وأسسوا المركز، وشكراً جميلاً للمسؤولين الذين صادقوا بقطعة الأرض التي سيُقام عليها المركز، وشكراً لدولة قطر الشقيقة التي قامت بواجب العزاء ووعدت بدعم المركز.. فالراحل كان يعمل خبيراً ومستشاراً لدى سفارة قطر بباريس حتى وفاته.. وكانت تربطه بالراحل البروفيسور “علي المك” علاقة يحكي عنها الركبان، فقد كانا أكثر من شقيقين اتحدا في روح واحدة، والدليل رحيلهما إلى الدار الباقية التي ذهب إليها بروفيسور “علي المك” فلحق به صديقه “صلاح” بعد عام من الحزن على فراقه.
ولد “صلاح أحمد إبراهيم” بمدينة أم درمان بحي العباسية في 27 ديسمبر عام 1933م، ودرس الأدب بجامعة الخرطوم، وتخصص في الدراسات الإفريقية بغانا، طالباً ومدرساً. وفي (لاهاي) درس علم الاجتماع والصحافة والإعلام التابع لجامعة (ستراسبورج)، وتقلب في حياته العملية بين التدريس والعمل بوزارة المالية والاقتصاد، ثم بوزارة الخارجية فالأمم المتحدة بمجلس أمنها، ثم سفيراً.
كانت حياته مليئة بالترحال والتنقل بقلب مفعم بالحزن الشفيف والمحبة الخالصة للسودان وأهل السودان، وأسعدتنا وأكرمتنا الظروف بالالتقاء به واستضافته لنا بمنزله بالعباسية (شرق محطة سنادة) الذي لا يبعد كثيراً عن منزل أسرته غرب (محطة جعفر)، وكان منزله متواضعاً بسيطاً كتواضعه وبساطته.. غمرنا بدفء مشاعره وعلمه الغزير ولم يبخل علينا باستعارة كتبه، وبالطبع كنا نصغي بانتباه للأحاديث والحوارات الأدبية الشائقة التي كان بروفيسور “علي المك” و”صلاح” يرحمهما الله يطرباننا بها.. وكلاهما يفتخر ويعتز بسودانيته ولهما محبة خاصة لعاصمتنا الوطنية أم درمان، ولهما القدح المعلى في إبراز حضارة السودان المعاصرة.
ولأم درمان الفضل في تشكيل المكون الثقافي لـ”صلاح” الذي التقى واستمع عبر منابر ثقافتها بالشاعر “علي الجارم” و”عباس محمود العقاد” وتعرف على “العبادي” و”ود الرضي” وغيرهم، واستمع إلى أغاني “سرور” و”خليل فرح” و”إبراهيم عبد الجليل”، واستمع إلى الزعماء السياسيين في الأمسيات الثقافية بدور الثقافة والأندية – وقتها بدأ كتابة الشعر والقصة والمقال الثقافي والسياسي – وفي العام 1954م دخل جامعة الخرطوم، ولا ننسى الدور الذي لعبه والده الشيخ المعلم مولانا “أحمد إبراهيم” – يرحمه الله – الذي حفظه أجزاء مقدرة من القرآن وقرأ على يده المتون والنحو والصرف وألم بالشعر الجاهلي والأموي والعباسي وبعض من نماذج الشعر الحديث، ومن أساتذته الذين يكن لهم مودة ويعترف لهم بحقوقهم عليه الدكتور “عبد المجيد عابدين” والدكتور “محمد النويهي” والدكتور “عبد العزيز اسحق”، وهم مصريون، وبالطبع الدكتور “عبد الله الطيب” النابغة العلامة السوداني والدكتور “إحسان عباس” الفلسطيني.
و”صلاح” ضالع في الأدب الانجليزي ومرجع وحجة، حبب لنا الشعراء الرومانسيين الإنجليز أمثال “كتس” و”ورد ثورت” و”كولردج” و”بايرون” و”شيلي”، وليتكم استمعتم إليه وهو ينشد تلك الأشعار بالانجليزية، ثم يشرحها بتداعٍ رائع بالعربية وأحياناً بالعامية. و”صلاح” تحرر من الانسياق في مدارس الشعر، إذ مازج بين كل تلك المدارس ليصنع لنفسه مدرسة خاصة به. اقرأ معي جزءاً من قصيدته (عشرون دستة) التي ألفها عام 1956م بعد إضراب مزارعي مشروع (جودة الزراعي) بالنيل الأبيض، الذين اعتقلتهم سلطات الحكومة في ذلك الزمن وكانوا حوالي مائتي رجل، فاضت أرواحهم جراء الاختناق.. قال:
لو أنهم..
حزمة جرجير يُعد كي يُباع
لخدم الإفرنج في المدينة الكبيرة..
ما سلخت بشرتهم أشعة الظهيرة
وبان فيها الاصفرار والذبول
بل وُضعوا بحذر في الظل في حظيرة
وبللت شفاههم رشاشة صغيرة
وقبلت خدودهم رطوبة الأنداء
والبهجة النضيرة..
بالله عليكم تأملوا المقطع جيداً والقصيدة من نصوصه المبكرة، أي عمق في التعبير والبلاغة والوصف استطاع تجسيده لتلك الحادثة الحزينة، واقرأ هذا المقطع الذي نظمه عند أحداث الجفاف والقحط التي اعترت السودان في ثمانينيات القرن الماضي:
قد جفَّ طينُ قاعة على هوان..
كثفل قهوة جف على فنجان
وفي المكان..
آثار أقدام كثيرة وشلوُ قِربة وعظمتان
لتربة عطشانة شقوقها جِراح
تنزو بغير دم..
أبخرة كأنها حِمم
و”صلاح” يعتنق مذهباً إنسانياً سودانياً عظيماً، وفكره وكيانه تركيبة نسيج صنعه في منسجه الذي صنعه عبر سنوات عمره القصير، ولا أنسى معاركه ومساجلاته مع المرحوم “عبد الخالق محجوب” زعيم (الحزب الشيوعي)، مقدماً مرافعاته الموضوعية التي برر فيها انعتاقه من (الحزب الشيوعي السوداني).. يومها تعلمنا منه أنه من الصواب أن ينعتق المفكر أو الأديب أو الفنان من أن يؤطر نفسه في إطار أيديولوجي محدود، بل الخير كله أن ينظر في فضاءات الإنسانية الرحبة، و”صلاح” يقول معرفاً نفسه:
فأنا قلبي مأوى الضعفاء
وأنا حبي خبز للمحرومين وللتعساء
وأنا من كفي
ألواح نجاة وقوارب
وأصابعها تمد حبالاً للهاوي تمتد دروباً للهارب
أبوابي ليس بها حراس..
يفتحها حبي للناس.. لكل الناس
وحين صدر ديوانه (غابة الأبنوس) احتفلنا بالديوان، بل كدنا نحفظ قصائده عن ظهر قلب، ويومها كانت تعيش القارة السمراء مواسم التحرر والانعتاق في قبضة المستعمر ومن منا لم يحفظ:
أنا من إفريقيا.. صحرائها الكبرى وخط الاستواء
شحنتني بالحرارات الشموس
وشوتني كالقرابين على نار المجوس
لفحتني فأنا منها كعود الأبنوس.
يرحمك الله أستاذنا “صلاح” رحمة واسعة.. أما عن عناوين إصداراته وترجماته فهي:
– مجموعة قصص قصيرة بالاشتراك مع صديقه القاص “علي المك” بعنوان (البرجوازية الصغيرة) عام 1958م.
– ترجمة كتاب النقد الأدبي الأمريكي لـ (وليام فان اكونور) عام 1960م.
– اشترك وصديقه “علي المك” في ترجمة (الأرض الآثمة) لـ”باتريك رنزبيرج” عام 1971م.
– أصدر مجموعته الشعرية الأولى (غابة الأبنوس) عام 1959م.
– أصدر مجموعته الشعرية الثانية (غضبة الهباباي) عام 1965م.
– أصدر بالعامية السودانية (محاكمة الشاعر للسلطان الجائر) عام 1986م.
– صدر له بـ(باريس) ديوان غضبة الهبباي وقصائد أخرى.
– صدر له بعد وفاته: ديوان (نحن والردى) عام 2000م.. ديوان (يا وطني) عام 2007م.. ديوان (غضبة الهبباي) عام 2013م، هذا بالإضافة إلى كم هائل من المقالات والمحاضرات نشرها في عدة صحف ومجلات دورية تصدر بـ(فرنسا) و(بريطانيا) والعالم العربي.
وختاماً أقول لصديقي “الهادي أحمد إبراهيم” نترقب مجيئك للوطن لتقود مسيرة مركز الراحل (صلاح أحمد إبراهيم الثقافي)، فهناك عمل كثير ومهم ينتظرك خاص برمز مهم من رموز الثقافة السودانية، ولأختنا الفضلى الأستاذة “فاطمة أحمد إبراهيم” الأمنيات بالصحة، فهي أيضاً تعد من أميز الرموز السياسية المعاصرة، وليتها كتبت سيرتها الذاتية، فالجيل المعاصر يحتاجها.
وما كتبته عن أستاذي “صلاح” قليل جداً، وأتمنى أن تكون كتابتي دافعاً للعديد من تلاميذه ومعاصريه أن يكتبوا عنه، وكفانا عادة عدم الكتابة والاكتفاء بالسرد والمشافهة.