رأي

ذكريات في كلمات

خبراء الصحافة يقولون إن كاتب العمود لا بد له من الإستفادة هو والقراء من تجاربه الشخصية، يكتبها في عموده دون خجل لأنها ليست ملكه، ولابد للقاريء أن يعرف كل شيء عن البيئة التي نشأ فيها الكاتب، ليعرف الناس العوامل التي تؤثر فيه، وهذا قدر كل من اختار الكتابة حرفة.
حدثتكم مرة عن أصل جدي التركي، بالطبع ما دام هو من الأتراك فلا بد أن يكون من الطبقة الحاكمة التي تملك مئات الأفدنة، ولكن جيلنا لم يرث من كل هذه الأرض سوى بضعة أمتار وأرض بور لا يستطيع زراعتها. قال والدي إنه لم يخطط إطلاقاً للإقامة في الخرطوم، بل كان يفضل البلد حيث له مكانة.. وحتى الحرب العالمية الثانية لم يفكر في الهجرة. اعتاد الناس في الشمال، أن الذين يهاجرون هم الذين لا يملكون أرضاً، وهؤلاء هاجروا حتى إلى مصر، لأن ذلك كان مجال الهروب من الفقر بينما ظل والدي متمسكاً بالأرض التي كانت تكفيه من عائدها. لا أعرف ما الذي جعل والدي يغير رأيه ويتخلى عن البلد ويفضل عليها العاصمة، يبدو أن هجرة شقيقه وعمله كسائق في وزارة الزراعة وحصوله على عائد كبير مكنه من شراء أرض أبناء عمه، هو الذي جعله يحس بفائدة الإقامة في العاصمة. أقام عمي في الخرطوم ولكنه لم يتخلَّ عن البلد التي كان له فيها مزرعة كبيرة، حول جزء منها إلى جنينة فأغرى ذلك والدي وأحد أعمامي للقدوم للعاصمة.. قال لي إنه حتى بعد حضوره لم يفكر في الإقامة بها، لأنه يملك مزرعة كبيرة وجنائن، وكان يعتقد أنه سيقوم بتوسعة المزرعة من عائد العمل في العاصمة، وكان يكتفي بقضاء عدة أشهر في البلد، ولكن منذ أوائل الخمسينيات حسم أمره وقرر الإقامة في العاصمة، فحضر مع شقيقه الآخر وقرروا الإقامة سوياً في منزل واحد مع عائلتيهما مع الاكتفاء بالذهاب للبلد في الإجازات لمراجعة الجنائن والأرض. قال لي إنه قرر الإقامة في العاصمة بعد أن أصبح له أربعة أبناء كلهم ذكور بحاجة للتعليم والمدارس. ومنذ أوائل الخمسينيات أصبح والدي من أبناء الخرطوم يقيم في منزل حديث امتلكه بالشراء هو وعمي.
منذ أن تفتحت عيوننا وجدنا أنفسنا من أبناء العاصمة اسماً، لأننا بالفعل كنا لا نزال من أبناء الشمال نحرص على قضاء عدة أشهر بها. وبعد فترة ارتكب والدي حادثاً مرورياً في أوائل الخمسينيات، فسحبت رخصته كسائق لوري بوزارة الزراعة، ولكن الوزارة استوعبته في قسم النجارين. ومضى في هذا الطريق حتى أصبح رئيس القسم، وكان يعمل أيضاً بهيئة النقاشة التي كانت تدر عليه دخلا كبيراً لأنها عمل حر. وهكذا كان يعمل نجاراً في الصباح ونقاشاً بعد الظهر.. وأصبح مشهوراً في كل مناطق القوز والسجانة بجودة عمله، ونسي كل شيء عن العودة للبلد، وقرر الإقامة النهائية بالعاصمة وترك الأرض لأحد أعمامي وعماتي.
لا بد أن أقول لكم إن والدي كان من طائفة الختمية يدين لها بالولاء ويحرص على إظهار الاحترام لها ولأبنائها، وظل حتى الشهر الأخير من حياته يحرص على إقامة الليلية هو ومجموعة أخرى من المريدين. وأذكر أنني عندما كنت طالباً بالمرحلة الابتدائية أنه أخذني ضمن وفد إلى السيد “علي الميرغني” لأصافحه، ومنذ ذلك اليوم كان والدي يصر على أن نجاحي في الدروس سببه (مباركة) السيد “علي” لي. وكان يحرص على زيارة (الضرائح) في بحري ويأخذنا كلنا إليها وكنا نزور جنينته في الخرطوم في الأعياد، بل يحرص والدي على أداء صلاة العيد بها ويأخذنا كلنا إلى الجنينة على شارع النيل بالخرطوم لإظهار الولاء، وكنا نرى أن تربة الجنينة فيها بركة ونحرص على أخذ جزء منها معنا.
نواصل
سؤال غير خبيث
هل كل أبناء الشمالية ختمية؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية