المشهد السياسي

إنه لا يهوى الانتخابات .. بل يخشاها..!

لم ينشأ (الحزب الشيوعي) على الديمقراطية وآلياتها وفقهها المعروف، ولذا فهو يبحر بعيداً عنها بقدر الإمكان عندما تظهر في الأفق ملامح انتخابات أو صندوق تحدد نتيجته أحجام وأوزان المتنافسين عليه من الأحزاب والكتل السياسية. ومن يعد إلى سنوات ما بعد الاستقلال والديمقراطيتين الثانية (بعد أكتوبر 1964م) والثالثة بعد الانتفاضة (في رجب – أبريل 1985م)، يجد أنه يعمل وبقدر الإمكان على اللعب على الزمن والوقت، وذلك يعود إلى أنه ليس بحزب جماهيري وإنما حزب نخب ثقافية ومهنية وعمالية. ففي حضن (عطبرة) مدينة العمال والسكة الحديد نشأ وتربى ومنها انطلق إلى مواقع أخرى من أبرزها المدارس الثانوية والجامعات، قبل ظهور الحركة الإسلامية السودانية التي نافسته على ذات المواقع ثم شاركته الحضور في اتحادات ونقابات المهن والعاملين، إلا أنها زادت عليه بأن تمددت إلى مواقع جماهيرية كانت تتمتع بها الأحزاب الكبرى ذات المرجعية الطائفية.
الحكومات الانتقالية طويلة الأجل وحدها هي التي كان يحفل بها (الحزب الشيوعي)، لأن قسمة المواقع التنفيذية فيها تكون (بالتساوي) حزبياً، وما بقي وهو كثير يكون للمهن والنقابات والاتحادات التي في جملتها كما قلنا من حظ (الحزب الشيوعي) كما حدث في أول حكومة انتقالية بعد ثورة أكتوبر – حكومة سر الختم الخليفة الأولى – التي لم تعش طويلاً، حيث استقال رئيسها وفتح ذلك الباب لحكومته الثانية التي أعدت لأول انتخابات عامة كان بها خمس عشرة دائرة للخريجين، حصل (الشيوعي) على إحدى عشرة دائرة منها، وحصل (الإخوان المسلمون) على دائرتين و(الاتحاديون) على دائرة واحدة، في حين كان نصيبهم – الشيوعيين أعني – في الدوائر الشعبية لا يكاد يذكر.
خلافاً لذلك كان الحال بالكامل بعد انتفاضة رجب – أبريل 1985م، حيث أن دوائر الخريجين (الثلاثين) تقريباً كسب منها الإخوان – أو الجبهة الإسلامية القومية يومئذ – بضعة وعشرين مقعداً، مما رفع حصتهم في البرلمان إلى بضعة وخمسين مقعداً ليصبحوا الحزب الثالث بعد حزب الأمة (103) مقعداً و(الاتحادي) بضعة وسبعون مقعداً، ثم (الشيوعي) الذي حصل على ما يقل أو يزيد قليلاً عن أصابع اليد الواحدة (خريجين ودوائر شعبية..!)
لقد خرج (الحزب الشيوعي السوداني) بعد تجربة 29 مايو 1969م وانقلاب هاشم العطا في 19 يوليو 1971م معطوباً ومنهكاً حزبياً وفكرياً وجماهيرياً وأتباعاً في ذات الوقت، علماً بأنه كان الرائد لتلك التجربة في الربع الأول من عمرها، غير أن ما حدث له ولزعاماته بعد حركة الرائد “هاشم العطا” كان القاضية من حيث الخبرات والزعامات والقدرات التاريخية الأوسع انتشاراً وقبولاً في الداخل والخارج، فلم يعد له زخمه وحضوره لينتظر الكثير من أية عملية انتخابية متوقعة، وهذا ما جعله ينأى بنفسه عنها وهو الذي له حراكه ونشاطه في الدعوة للديمقراطية وزوال أنظمة الحكم العسكرية أو شبه العسكرية.
ومن يلقي النظر إلى تصريحات ومواقف (الحزب الشيوعي) بشأن انتخابات 2015م هذه الأيام، يجد أنه يرفضها ويصر على رفضها التام، وله في ذلك ما يدعوه إليه أو يجعله يرفضها بالفم المليان، الأمر الذي يراه البعض شذوذاً في السلوك، في وقت يدعو فيه البعض إلى الديمقراطية والحرية، ولكن المصالح وحساب المكاسب هما اللذان يدفعان بـ (الحزب الشيوعي) إلى ذلك الاتجاه، فالعملية برأيه عملية حسابات ونتائج تحدد الأحجام والأوزان وتضع (النقط) على الحروف – كما يقولون.
إن (الحزب الشيوعي) الذي لم يكن راضياً عن فترة “سوار الدهب” و”الجزولي” الانتقالية التي كان عمرها عاماً واحداً وألقت به من بعد بين يدي انتخابات 1986م العامة بعد الانتفاضة على نظام النميري في رجب – أبريل 1985م الذي طالما سعد به وعمل من أجله.. كان يضع في باله وحساباته دوماً أن تطول الفترات الانتقالية بعد زوال الأنظمة إلى ما يشتهي من الأعوام والسنوات، وعليه صار يلعب على تلك الورقة دوماً.
ونعود بالذاكرة هنا إلى الميثاق التأسيسي لتجمع أحزاب المعارضة الوطنية السودانية في الخارج، وقد كان من بينها (الأمة القومي) و(الاتحادي) و(الحركة الشعبية) و(الحزب الشيوعي) بطبيعة الحال، وكان زعيمه يومئذ التيجاني الطيب بابكر – رحمه الله.
في ذلك الميثاق والاجتماع التأسيسي للتجمع الوطني الديمقراطي بالقاهرة في مفتتح عام 1990م أصر الحزب و(الحركة الشعبية) معاً على أن يكون عمر الفترة الانتقالية أربع إلى خمس سنوات، وليس عاماً واحداً كما كان في حكومة المشير “سوار الدهب” والدكتور “الجزولي دفع الله”، وذلك بطبيعة الحال من (باب) التحوط والاحتراز من انتخابات عامة تكتسحها الأحزاب التقليدية ويكون نصيب (الحزب الشيوعي) وأنصاره الهامش، لا سيما وأنه في سنوات مايو العجاف بنظره فقد وجوده وحضوره في النخب والمهن والنقابات، وسيطر عليها خصومه الإسلاميون كما الحال إلى يوم الناس هذا.
على أنه – كما هو معلوم – لم يأتِ ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي في الأمر بجديد، وقد انتهى الحال بعد فترة الانتفاضة الانتقالية إلى ما انتهى إليه من خسارة لنتائج انتخابات 1986م العامة. وجاء اتفاق السلام في (نيفاشا في 2005م) ليجعل قسمة السلطة والثروة بين طرفين ليس (الشيوعي) وأفراد (التجمع الوطني الديمقراطي) أحدهما.. بل ورغم ما اعترى فترة السلام الانتقالية – وهي ستة أعوام – من تقلبات وعدم استقرار لم يكن (الحزب الشيوعي) ليسعد بانتخابات 2010م العامة التي قاطعها كما فعل آخرون، ولم يكن من بعد ليسعد أو يرضى عن فترة انتخابية مقبلة وهو الذي يدعو إلى زوال نظام الإنقاذ الحاكم وسقوطه بسائر الآليات تقريباً – عدا آلية الانتخابات..!
ومن راقب خريطة الحراك السياسي في بلادنا في سنوات ما بعد (نيفاشا) التي أنهت حقبة ما عرف بـ (التجمع الوطني الديمقراطي)، يجد أن (الحزب الشيوعي) يلعب على أوراق أخرى خليط بين الوسائل السياسية والعسكرية، والإشارة تحديداً هنا إلى:
– قوى الإجماع الوطني.
– تجمع أحزاب جوبا.
– والحركة الثورية.
(قوى الإجماع الوطني) التي كانت وما تنفك المولود السياسي لـ (الحزب الشيوعي السوداني)، تبدو الآن وقد فارقها حزبا (الأمة القومي) والحزب الاتحادي (الأصل) وغيرهما من الأحزاب، قد ماتت ولم يعد لها ذكر في ظل الواقع المذكور.
والشيء نفسه وزيادة يقال عن (تجمع أحزاب جوبا)، فقد مات (تجمع أحزاب جوبا) هو الآخر بما حدث من تطورات إيجابية قربت المسافة بين (جوبا) و(الخرطوم) عبر ما عرف باتفاق (التعاون المشترك) وترجمته الأخيرة إلى اتفاق سلام وأمن قومي شامل يمكن أن يحقق الأمن والاستقرار ويصلح حال الاقتصاد الذي يتوقع منه (الشيوعي) الكثير من تظاهرات واحتجاجات سبتمبر الماضي ذات البعد التخريبي.
ما يبقى بعد ذلك من الوسائل غير الديمقراطية التي يعوِّل عليها ويرجو منها (الحزب الشيوعي) هو (الجبهة الثورية)، التي لا تخلو هي الأخرى من الأسباب المزلزلة والداعية إلى التفكك أو عدم القدرة.. ذلك أن (جوبا) لم تعد معيناً لها أو لغيرها من جماعات التمرد والعمل المسلح.
إلا أنه – وذلك كله معلوم ومحسوب – يظل (الحزب الشيوعي السوداني) رافضاً للعملية الديمقراطية الانتخابية في الربع الأول من عام 2015م كما يصرح ويفيد كل صباح في الصحف اليومية السودانية.
لا شك ولا ريب في أن (الحزب الشيوعي) لن يكون له حظ مرضٍ من صندوق الانتخابات المقبلة، ولكنه بالموافقة عليها يبرئ نفسه من أنه كيان سياسي غير ديمقراطي ولا ينتظر من الديمقراطية الكثير، فهو شأن غيره يتذرع بعدم نزاهة وشفافية الانتخابات.
ولكن ذلك كله مقدور عليه وفي كل مراحل العملية الانتخابية المزمعة.. فهناك قانون انتخابات يضبط العملية الانتخابية من الألف إلى الياء، وهناك لجان رقابة محلية وخارجية، كما أن لكل حزب أو مرشح مندوبه الذي يقف على العملية ويراقبها في الدائرة المعنية إلى النهاية.. فضلاً عن أن هناك رقابة الكترونية تضع كل شيء بين يدي المراقب الذي يقف على العملية الانتخابية.
وتظل الإمكانات المادية والمعنوية للحزب المُعين – وهو يدخل الانتخابات – هي الأساس والعنصر في تحقيق الحصة والنتيجة المرجوة، غير أنه لكل جهده واجتهاده في تأهيل وبناء قدراته السياسية والتنافسية، وبقدر أهل العزم تكون العزائم، إلا أن (الحزب الشيوعي السوداني) يخشى التاريخ والتجارب في صناديق الانتخابات، وبخاصة في السنوات الثلاثين الأخيرة التي أُصيب فيها بالكثير من الكبوات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية