رأي

وسقطت راية الاستسلام!!

(يا أبو مروووة).. هكذا صرخت أمي مستنجدة بعد أن فشلت كل محاولاتنا لصد المياه ودحرها عن منزلنا.. جميعنا كان يعمل حتى “أبتسام” الصغيرة كانت تغرف الماء من صحن الدار للخارج.. أشارت أمي أن نسد فجوة الجدار الخارجي بـ(المرتبة)، ولكن سرعان ما تسربت المياه من حيز ضيق زاد وكبر في رمشة عين، فانهمر الماء كفوهة بركان مجنونة، وتعالت أصوات أخوتي بالصياح.. أما أنا فقد كنت أبحلق أمامي في ضياع حين أتاني صراخ أمي: (فيصل، امسك ابتسام السيل ما يشيلها) وغطى على كل هذا الهرج صوت انهيار الجدران.. أسرع إلينا بعض من الجيران كان أولهم عمي “يحيى” جارنا الكريم.. سألني وأخوتي أن نقصد دارهم وأمر أمي أن تترك كل شيء وتغادر فوراً فسيل المياه لا يعرف سوى الاكتساح، وحاول هو ومن معه أخذ بعض أشيائنا التي سبق أن أعدتها أمي قائلة: (الدنيا ما معروفة).. مكثنا أسبوعاً بحاله في منزل جارنا “يحيى”.. طلبت مني أمي أن أذهب إلى عمي وأخبره بما حدث وما أن دخلت محل تجارته المهول حتى خلع نظارته الطبية ووضعها بتمهل أمامه وسألني: (الجابك شنو يا ولد؟؟) فقلت: (أمي رسلتني.. ) وقبل لن أنهي حديثي صرخ: (مالها أمك دايرة شنو؟؟) قلت: (بينتا شالو السيل و….) وقبل أن أكمل فرك يديه في نشوة بائنة: (هلا… هلا أمك ما قالت ما بتمرق من بيتها هسع مرقت كيفن؟؟) عندها أدرت ظهري للخروج فهب ممسكاً بقميصي متهكماً: (كمل حديثك يا ود عشة).. أحسست بشيء من الدوار لم أحسه وأنا وسط ركام بيتنا المعطون في الماء فمصائب القدر تهون مهما كانت فواجعها ولكن مصائب البشر.. وكرر سؤاله: (ما قلت لي أمك قالت شنو؟؟) فأجبته من وراء ظهري: (قالت أكلمك إننا قاعدين مع ناس عمي يحيي جارنا) وخرجت قبل أن اسمع رده.. نقلت ما سمعت من حديث شقيق والدي إلى أمي بعد أن انتزعت الكثير من أشواكه.. نظرات أمي تقول إنها لا تصدقني إلا أنها سألت: (ما قال بيجينا متين؟؟) أشفقت عليها فكذبت قائلاً: (بكرة.. بكرة إن شاء الله بيجي)، وقد كان، فقد جاء عمى واستقبله جارنا بكرمه المعهود ولكن بعد برهة قليلة سمعنا صوت شقيق والدي يعلو غاضباً: (ولية رأسها ناشف ما بتسمع الحديث بعد موت المرحوم اتكلمت معاها و..) عندها طلبت مني أمي أن أذهب للجلوس معهم فهذا الموضوع يخصنا.. وواصل “إبراهيم” شقيق والدي قائلاً: (يا حاج يحيى أسمعني أنا كنت عارف إنو الأولاد ديل بعد موت أبوهم م بقدروا على العيشة هنا قعدت معاها وشرحت ليها: يا عشة يا أختي العاصمة مشاكلها كتيرة والأولاد ديل لسع صغار وإنت ما ست شدايد أنا في رأيي ترجعوا البلد لكن ما سمعت.. مش كده وبس، دي افتكرتني عدو ليها ولي أولادها ورأسها وألف سيف ما بتمرق من بيتها).. وتابع شامتاً: (هسع مرقت كيفن؟؟) في هدوء قال جارنا: (كدي خليك من أمس إحنا في يوم الليلة) واعتدل شقيق والدي قائلاً: (كيفن أخليك من أمس لو المرة دي سمعت الحديث هسع كان قاعدة في الحلة؟؟) نظر جارنا إلى شقيق والدي طويلاً وقال: (حاجة عشة ما قاعدة في الحلة والمرحوم كان جار عزيز و…) عندها انتبه الرجل لرشاش حديثه فحاول تعديله: (لا.. لا يا حاج يحيى ما تفهمني غلط إنت راجل أخو ما قلنا شيء لكن كمان عشة وأولادها ماشين يقعدوا معاك لي متين؟ دا كلامي يعني).. وكان لابد أن أشارك في الحديث فوجهت حديثي إلى شقيق والدي قائلاً: (طبعاً إنت عارف أنا في سنة تانية هندسة وهدى في أولى ثانوي وياسر…) وقبل أن أكمل حديثي انتهرني قائلاً: (أسطوانة أمك دي سمعناها قبل كده كتير.. التعليم.. التعليم.. هو التعليم ده إلا في الخرطوم؟!).. وتحدث جارنا: (التعليم موجود في كل المدن الكبيرة) وخطف شقيق والدي الحديث: (أها سمعت يا ولد أنا عدوكم دا خليني أهو حاج يحيى قال ليك التعليم موجود).. صبر جارنا حتى أكمل شقيق والدي حديثه: (لكن يا حاج إبراهيم أولاد أخوك باديين دراستهم هنا وهم متفوقين والحمد لله يعني رأي أختنا عشة صاح ما في سبب يرجعها مع عيالها البلد وهي شايفة مستقبل أولادها هنا).. تململ “إبراهيم” في جلسته وصمت قليلاً ثم وجه حديثه إليّ: (أمشي نادي أمك).. أتت أمي فتلقى تحيتها ببرود قائلاً: (خلاص نادي أولادك الحاجة جهزت ليكم محل عندنا في البيت).. حقيقة سعدت أمي وردت عليه: (عارفاك ما بتقصر الله يطول عمرك) فقال عمي “يحيى”: (خلاص أنا ح أوصلهم ليكم بكرة المساء ولو ما إنت شقيق المرحوم والله ما يمرقوا من بيتي).. شكرته أمي ومسحت دموعها وغادرت.. في مساء اليوم التالي توقفت بنا عربة عمي يحيى أمام الدار الأنيقة لشقيق والدي: (ما شاء الله) قالها عمي “يحيى” ثم سألني أن أفتح خلفية العربة لإنزال ما بها، ولأول مرة ترى أمي ما جهزته لنا خالتي “عواطف” زوجة عمي “يحيى” في حقيبة كبيرة سوداء، فقالت أمي (دي شنو يا يحيى يا أخوي) فرد باستحياء الكريم: (حاجة بسيطة من خير ربنا)، وكان الموقف أكبر من التعليق عليه.. أسرعت “ابتسام” تطرق الباب بكلتا يديها الصغيرتين قائلة: (الحمد لله بيت عمي ما شالو السيل) فرد عليها “ياسر”: (دي عمارة السيل ما بيشيلها).. ضغطت على جرس الباب مرة واحدة.. فتح الرجل الباب استقبلنا بسلام بارد وفاتر وإن حاول أن يكون سلامه حاراً مع جارنا.. ودخلنا إلى صالة الاستقبال لنمكث بها زمناً طويلاً قبل أن تأتي صاحبة الدار لتحيتنا.. سلمت علينا بأطراف أصابعها أمي وأنا و”هدى” أختي وتجاهلت تماماً يد الصغيرة “ابتسام” التي ظلت ممدودة في فراغ الصالة ذات الأثاث الفخيم، فما كان من “هدى” إلا أن رفعت يد شقيقتها وقبلتها طويلاً فبرقت ولمعت حدقات “ابتسام” بفرحة أضاءت عتمة ثريات هذا البيت الأنيق.. (أشربوا العصير) قالتها مضيفتنا بصلف لا يخفى وكأنها تمُن علينا.. ناداني شقيق والدي لوداع عمي “يحيى” الذي شدّ على يدي قائلاً: (فيصل أرجوك ما تقطع زياراتك عننا).. شكرته طويلاً فلم يزد على أن قال: (يا رااجل ما تقول كده دا الواجب).. برداً وسلاماً كانت يده ومجلداً كاملاً من الحديث كانت مخاطبته لي بقوله: (يا رااجل)، فعندها أحسست أن قامتي ازدادت طولاً ولكن سرعان ما رجعت لحالها بحديث شقيق والدي: (يلا يا ولد على أمك وأخوانك) ودلف قبلي.. تحدث قبل أن يجلس وكأنه مستعجل لأداء مهمة ثقيلة: (شوفي يا عشة البقعد معاي لازم يسمع كلامي.. من بكرة شغل ليك مافي).. فردت أمي: (لكن…) فقاطعها مشيراً بسبابته: (ده شرطي عشان تقعدوا معاي) وضغط على حروفه: (مش معقول تشتغلي فراشه في مدرسه وتعيشي معانا) ردت أمي: (الشغل ما عيب) وتدخلت زوجته: (حقيقة الشغل الزي شغلك دا ما حينفع معاي) ولدهشتنا استسلمت أمي قائلة: (سمح الفيها خير الله يسويها).. خرج شقيق والدي وقادتنا زوجته نزولاً لأسفل دارهم حيث البدرون (محل إقامتنا الجديد).. مرت أشهر قليله على وجودنا معهم علمنا من خلالها أن صاحب الدار وزوجته يقيمان الناس بمقدار ما يملكون من مال ووضع اجتماعي، وهكذا تسير الأمور في دارهما، حتى مستوى الضيافة عندهما يحدده وضع الضيف، فقد يضيفاك فقط بكوب من الماء في حين يتم استقبال شخص آخر بترولي تلمع فيه الأكواب وتتنافس فيه أنواع العصائر المختلفة.. عليه أنا شخصياً لم أندهش عندما حاول عمي تغيير مجرى حياتنا، فبحالنا الرقيق هذا كان يجب أن نكتفي بأقل القليل ولا مكان للأحلام ناهيك عن تحقيقها لمن هم في وضعنا، فها هو شقيق والدي يبلغ أمي برغبته في تزويج شقيقتي “هدى”، فالبنت مصيرها الزواج ولابد من رجل يتحمل مسؤوليتها وضرورة أن ابدأ أنا البحث عن عمل لأعول أسرتي وممكن أرجع للدراسة بعدين لو لقيت طريقة، وبدت تعليماته تلك وكأنها أمر مفروغ منه وما علينا إلا الطاعة.. عندها حزمت أمي أمرها معلنة: (لحدي هنا وكفاية، إحنا راجعين لي محل ما جينا) وفعلاً عدنا وأعدنا بناء غرفة واحدة من دارنا وألحقنا بها الحمام، وبالصبر والتدبير بدأت جدران السور الخارجي تنهض من أطلالها.. ولا ننسى وقفة أهلنا في الحي بجانبنا، وساعدنا في ذلك عودة أمي للعمل بجانب دروس التقوية التي كنت أدرسها للتلاميذ في مادتي الرياضيات والفيزياء، والآن وبعد أن أخذت السنوات دورتها أكملت أنا دراستي بكلية الهندسة.. وها هي أختي “هدى” طبيبة امتياز.. و”ياسر” في بداية سنواته الجامعية.. أما الصغيرة “ابتسام” فجميعنا لا ينسى سؤالها لدكتورة “هدى” عندما أخذتها ذات مرة معها إلى مكان عملها بالمستشفى: (إنت يا هدى.. ليه سلم المستشفى بيطلع لي فوق وسلم ناس عمي إبراهيم بينزل لي تحت؟؟).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية