الصراحة المتناهية للدكتور!!
كان الدكتور جاداً جداً.. واثقاً مما يقول.. مطمئناً لما ذهب إليه.. لا يخالجه أدنى شك أن ما يتبناه هو عين الصواب.. فالأحزاب هي آفة هذا البلد.. ولم تقدم السودان بل أخرته كثيراً.. أربكت تنميته وهزمت إنسانه.. لابد من إلغاء الأحزاب.. هكذا ظل يردد لأكثر من مرة خلال استضافته (السبت) الماضي في برنامج (بمنتهى الصراحة) الذي أقوم على تقديمه بفضائية الخرطوم!!
الدكتور الذي كان وزيراً للتعاون والتنمية الريفية في أول حكومة للرئيس “جعفر نميري”، أكد لي خلال هذه المحاورة التلفازية أن قبوله لتولي الوزارة إبان الحقبة المايوية جاء بعد تأكيد “النميري” له أن الحكومة لا علاقة لها بالحزبية ولا تخضع لمحاصصات سياسية وإنما هي حكومة كفاءات (تكنوقراط) لذلك، كما يقول الدكتور، نجح في أداء مهمته مثلما نجح الوزراء الآخرون لأنهم منسجمون ومنكبون على برامج عمل وليس أيديولوجيات يختلفون حولها.
دكتور “عثمان أبو القاسم”، الذي ظل لآخر دقيقة من زمن البرنامج يدافع عن مايويته، هو ذاته العضو الآن في المؤتمر الوطني دون أن يرى في ذلك أي تناقض.. فالمؤتمر الوطني حينما دخله كما يقول حاول أن يطبق مفهوم (الاتحاد الاشتراكي) بأن يكون مظلة تتسع لجميع الأفكار والاتجاهات. ولكن التجربة، كما يروي، لم تنجح، لأن الحزبية القابضة ألقت بظلالها السالبة عليه بينما (الاتحاد الاشتراكي) نجح في كبح جماح الحزبية!!
الدكتور اعترف باعتزاز أنه كان ضد (المصالحة الوطنية)، الأمر الذي عجل بإبعاده من حكومة “نميري”، وأضاف إن (المصالحة الوطنية) هي التي مكّنت الأحزاب وجعلتها لاحقاً تنقلب على النظام المايوي، ولو انصبت الجهود حول تكريس (الوحدة الوطنية) وليس المصالحة السياسية لكان تاريخ السودان اختلف تماماً، ومع ذلك ظل الرجل وفياً لـ”نميري” في منفاه وبعد عودته، وكان أول مستقبليه، ومعه كوّن (تحالف قوى الشعب العاملة) وأصبح أميناً عاماً له.
إفادات “عثمان أبو القاسم” على جرأتها خاصة فيما يتصل برفضه المطلق للحزبية بمفهومها المتعصب والضيق، قد لا تجد قبولاً ولا اعترافاً من قبل الغارقين بشراهة في العمل الحزبي ويرون أن ممارسة العمل السياسي العام لا يمكن الولوج إليها إلا من بوابة الأحزاب، وقد يسوقون أمثلة منطقية من واقع أنظمة الحكم في العالم وكيف أنها تحتكم إلى مفهوم الديمقراطية وصناديق الاقتراع التي تفضي بأحزاب إلى سدة الحكم وأخرى إلى مظلة المعارضة.. لكن “عثمان” لم يتردد في إبداء تحفظه على مفهوم الديمقراطية نفسه، مؤكداً بأن ليس كل تجارب الممارسة السياسية تصلح لكل مكان وزمان، بدليل أن السودانيين لم يفلحوا حتى الآن في الصعود بالتجربة الديمقراطية التي انتهت إلى أنماط من الحكم الشمولي والشتات الحزبي، الذي أدخل البلاد في دوامة من النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي.
كان الدكتور صريحاً لأبعد الحدود وهو يدرك تماماً أن مقولاته قد تجر عليه اعتراضاً واسعاً من قبل الذين أدمنوا الحزبية وتشربت شرايينهم بدمائها، فغطى ولاؤهم لها على ما عداها، حتى لو كان الأمر يتصل أحياناً بمطلوبات وطن واحتياجات مرحلة.. ولم يتردد الدكتور في ربط الخروج من أزمات البلاد الراهنة بالانفكاك من نفق الحزبية المظلم كما يراه، لكن وقت البرنامج لم يتسع كي يشرح أكثر الكيفية التي يمكن أن يحكم بها السودان في حال إلغاء أو تجميد العمل الحزبي، والآليات القانونية والإجرائية التي يمكن أن تضبط مثل هذا التوجه الذي يستند إلى موروث حزبي ضخم ظل يتصاعد منذ حقب زمنية تطاولت، جعلت من الأحزاب هي الهوية الغالبة لأية ممارسة سياسية، حتى في الفترات الشمولية والأنظمة التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية.
أتفق إلى حد كبير مع أطروحات دكتور “عثمان أبو القاسم” المتصلة بتحميل الأحزاب مسؤولية الإقعاد بتقدم وتطور هذا البلد.. لكن أختلف معه في المطالبة بالإقصاء والإلغاء عبر قوانين صارمة وملزمة، لأن ذلك يدخل في باب المساس بالحريات الفكرية والسياسية.. وأظن أن النتائج التي يرنو إليها “أبو القاسم” يمكن أن تتكرس دونما قرارات استباقية، حيث إن الواقع السياسي وما يشهده الآن من أزمات حقيقية بوسعه أن يراكم لتجربة الانعتاق من طوق الحزبية الحديدي إلى رحاب الاستقلالية الوطنية، التي تفتح الباب لمن يحكمون ببرامج عمل وليس أيديولوجيات معلبة وجاهزة، فشلت حتى الآن بامتياز في معالجة قضايا البلاد وتقديم الإجابة المقنعة عن أسئلة الوطن الصعبة والمعقدة والمربكة!!
بمنتهى الصراحة، شعرت بصدق هذا الرجل وبحبه للوطن، فهو كما قال لي لا يطمح بعد كل هذه التجربة الثرة من المشاركة السياسية والعمل العام لمكاسب شخصية، وإنما يخشى على مستقبل الوطن، ويستشعر خطورة ما يمكن أن يترتب على التعصب الحزبي من مآلات كارثية تقود إلى مزيد من الانقسامات وتفتيت وحدة التراب الوطني.. وأمثال “عثمان أبو القاسم” كثيرون ممن يملكون حساً وطنياً صادقاً ويتبنون أفكاراً شجاعة وبناءة، تحتاج منا إلى إنصات واهتمام، ومن خلالها يمكن أن نضع خارطة طريق للكيفية التي يمكن أن يحكم بها هذا السودان، وللخروج من أزماته التي هي للأسف في تصاعد مقلق مقابل صمت مريب وسلحفائية مدهشة في التعامل مع متطلبات مرحلة حرجة ودقيقة تعني أن يكون السودان أو لا يكون!!