انهيار الصحف.. آتٍ!!
حزنت لما تسرب عن اتجاه من قبل الناشرين لرفع أسعار الصحف بحيث ترتفع قيمة النسخة إلى ما يتجاوز الجنيهين، وحسب إضافات السريحة وبعض الباعة– ولا أقول المكتبات– فالراجح أن السعر سيصل إلى ثلاثة جنيهات! وقطعاً فإن لهذه الخطوة دوافع ومبررات لا يخفى بعضها على المتعاملين في الوسط الصحفي أمثالنا، ونحن نعلم حجم التكلفة العالية للإصدار سواء في مجال الورق والطباعة أم بقية المعينات الإدارية من مصاريف تشغيل وخلافه، وهو خيار المضطر قطعاً.
إن آخر ما يمكن أن يتمناه أهل الصحف أن تكون الصحيفة نفسها سلعة غالية، قد يتسبب سعرها في إحجام الناس عنها، في ظل متغيرات كثيرة وتطورات إعلامية أدخلت مواعين أخرى تنهض بأعمال النشر والتداول المعرفي، وبعضها أقل تكلفة بمراحل لمن ملك الأدوات الأولية والوسائل، ولكم تخيل المفارقة أنك بما قيمته (واحد جنيه) تستطيع تصفح مواقع إخبارية ومدونات ومشاهدة مقاطع فيديو إن كنت تملك حاسوباً ثابتاً أو متحركاً أو (جوالاً) يدعم تلك الخدمات، فيما (ثلاثة جنيه) تكفي بالكاد لأن تشتري صحيفة سودانية!
هذا الواقع الجديد وإلى أن تنتبه الدولة بتدخل مناسب يدعم صناعة الصحافة في زمن رفع الدعم هذا، فإن التحدي الأكبر والأعظم أمام الصحافة الوطنية سيكون في تقديم مادة ورسالة تستحق أن يجازف المتلقي بالمفاضلة بينها ومصروفات أخرى، لن يشتري مواطن صحيفة (هايفة) بعد اليوم أو يتتبع منشورات كاتب أو صحفي لا تعبر عنه أو تناقش همومه وتتلمس مشاكله.. سينصرف الجميع عن صحافة (انسخ والصق) التي جعلت من محيط الانترنت محطات لدلاء محرريها فيغرفون منه ما تيسر وما لا تيسر بغرض تسويد الصفحات بالقصص والحكايات، وطالما أن المتلقي قد يغامر– هذا إن فعل- بدفع أكثر من جنيهين بعضها يصلح ليكون قوت يومه من الرغيف الهزيل، فإن هذا المتلقي سيكون حذراً في اقتناء صحيفة (أي كلام)، فمساحة الخيارات ضاقت وضاقت للغاية.
إن هذا الوضع دقيق وحرج وأخشى أن يحدث انهيار كامل للصحافة، لأن المؤسسات المستقرة لا تتجاوز الثلاث أو الأربع صحف (مع التحسينات)، وأتوقع تبعاً لهذا أن تتسع مظلة تشريد الصحافيين أو تضاف (حقوق مأكولة) أخرى لقوائم (العفو) التي طالما دلقها الصحافيون على ناشرين وأصحاب صحف عديدة أغلقت، هذا بخلاف صحف أخرى تعمل الآن وأجور عمالها وكتابها نسيئة وإلى حين ميسرة، وهذه أوضاع قبل التطورات الماثلة في ارتفاع تكلفة الطباعة والورق كما بينت، فما بالك وقد زاد الضغط، بحيث إن الحديث بعد الآن عن أرباح متوقعة قد صار احتمالاً لا تحققه إلا صحيفة ذات قدرات وإمكانيات وجمهور وإدارة تحرير قادرة على التحدي والفعل.
ويبدو أن واقع المشهد الصحفي ببلادنا بحاجة إلى جلسة تشاور واسعة وقرارات أوسع، وعملية إنقاذ عاجلة، وإلا فإن النهايات مأساوية، وقد تشمل قائمة المشروعات المنهارة في هذا البلد (الصحافة)، وسيكون الأمر وصمة في جبين الإنقاذ لا تمحى.