المشهد السياسي

وأخيراً .. الوصول إلى نهاية الطريق..!

الأسبوع الماضي 20 أكتوبر، كنا قد تناولنا في (المشهد السياسي) الموضوع: الإصلاح والتصحيح – كيف وإلى أين..؟ وفيه أشرنا إلى أن قادة التصحيح يسيرون على طريق الخروج من عباءة المؤتمر الوطني، ذلك أن ما فعلوا كان قد جانب التصحيح والإصلاح، إذ من حيث الزمان والتوقيت كانت المذكرة قد جاءت في الوقت الذي بدأ فيه حسم المظاهرات التخريبية وآثارها الضارة التي نالت من المجتمع وأرواحه وممتلكاته وأمنه واستقراره، ولم تكن مسبوقة بحال من الأحوال.
فالمذكرة – كما قالت المصادر – خاطبت السيد الرئيس داعية إياه إلى:
– الكف عن تلك المعالجة الأمنية التي أعادت الاستقرار بالفعل، إذ ما كان لدولة وجهة حكم أن تتفرج وهي ترى الأرواح والممتلكات والخدمات يطاح بها.
– ودعته أيضاً إلى التراجع عن قرار رفع الدعم، وهو ما كان يعني أن الدولة قد فقدت هيبتها، وما لم تفعله وهي آمنة ومستقرة وبكامل إرادتها، تفعله وهي خائفة ومهددة، مما يغري بمواصلة ما يحدث للإطاحة بها.
وهذا من الناحية السياسية الحزبية والوطنية ليس بإصلاح أو تصحيح، وإنما دعوة إلى الرحيل في حالة انهزام وتخلٍ عن المسؤولية، مما يذهب كل المكاسب والمنجزات السابقة التي أنفق فيها ما أنفق من الأرواح والموارد. وهذا ما لم يمكن أن يصدر عن فئة أو جماعة كانت تحسب عملياً وسياسياً وفكرياً جزءاً من النظام الحاكم، بل تقلدت فيه مسؤوليات وشاركت في صياغة السياسات والقرارات عبر سنوات طويلة.
إن التصحيح والإصلاح مرغوبان ومطلوبان في كل الأحوال، ولكن لهما وسائلهما وإجراءاتهما والطرق التي تؤدي إليهما، حتى لا تحسبان استغلالاً للظروف وتعبيراً عما هو في الدواخل من أسباب خاصة.. وهو ما لا يليق بشخوص كان لها تاريخها ولم تفقد بريقها بعد، إذ هي إن أرادت أن ترحل فلترحل في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب، لأن الانتساب لكيان سياسي أو حزبي بعينه لا يعني عدم الانفصال أو الفكاك إن كانت لذلك أسبابه، وهو ما مارسه آخرون كثر وفي أحزاب كثيرة.
وقد عبر حزب المؤتمر الوطني عن مؤسسيته وعن مسؤوليته كحزب رائد وحاكم بتشكيله (لجنة التحقيق والمحاسبة في مذكرة ما يسمى التيار الإصلاحي) الذي ضم أكثر من ثلاثين عضواً، منهم من هم في المراكز القيادية كالدكتور “غازي” والدكتور “فضل الله” والأستاذ “حسن عثمان رزق”، ويُعد ثلاثتهم ممن أوصت اللجنة المذكورة – في ضوء ما وصلت إليه – بفصلهم، والأمر (متروك) في النهاية وحسب القوانين واللوائح إلى مجلس الشورى – أي شورى الحزب – وهو الذي ينعقد كل ستة شهور. بيد أنه تبعاً لما شهدته الساحة الإعلامية من الجانبين من تصريحات وحراك في الفترة الأخيرة، يجد المراقب أن قيادة المجموعة الإصلاحية وإن ظلت متمسكة ببقائها في حزب (المؤتمر الوطني)، قد استقلت بنفسها بالفعل، فقد كان للدكتور “غازي صلاح الدين” مؤتمر صحفي في داره بالخرطوم بحري، جلس فيه إلى جواره على المنصة السيد “حسن عثمان رزق” والدكتور “فضل الله احمد عبد الله” واللواء (م) “صلاح كرار”.. وفيه تطرق إلى مذكرة التصحيح والإصلاح، وعبر عن عبور قريب إلى الشاطئ الآخر، مستبقاً توصية لجنة التحقيق التي شكلها حزب المؤتمر الوطني للتحقيق والمحاسبة.
ومن ناحية أخرى كان السيد “حسبو عبد الرحمن” (عضو المكتب السياسي بالمؤتمر الوطني) قد صرح للصحف بأن أصحاب المذكرة ستطالهم المحاسبة، وهو ما حدث، إذ أنه كان تعبيراً عما هو متوقع، طبقاً للوائح والنظم المؤسسية.
إن وصول قادة التصحيحية إلى الإعلام وبعض الأحزاب والكتل السياسية، لا يعني أن الأمر تصحيح أو إصلاح داخل الحزب، ولكنه انفصال (كامل الدسم). فقد نقلت بعض الفضائيات الخارجية المؤتمر الصحفي للدكتور “غازي صلاح الدين” بالكامل، وكذلك كان التعاطي مع المادة التي يلقى بها في المساحات الإسفيرية، وهي كثيرة ومتواصلة.
وما يُعنى به المراقب ويهتم أكثر هو: ما هو المتوقع من حدوث مثل ذلك الشيء أو الانفصال، إن أعلن بالفعل أو أجاز مجلس الشورى توصيات لجنة التحقيق والمحاسبة؟! فقد مر على المؤتمر الوطني ثلاثة عشر عاماً تقريباً ولم يشهد مثل ذلك الشيء، والإشارة هنا إلى انقسام الرابع من رمضان 1999 الذي أدى إلى قيام ما عرف بالمؤتمر الشعبي.
والمؤتمر الوطني في ما يبدو حزب عريض وممتد وأكثر ثباتاً ومؤسسية من غيره من الأحزاب، فعضويته بالملايين وقواعده الحزبية – حسب ما هو متاح من معلومات – بعشرات الألوف، فما الذي تحدثه جماعات الإصلاح والتصحيح فكراً وحراكاً سياسياً ومجتمعياً، وفي البال – كما قلنا – تكتل الشعبي والأحزاب المعارضة الأخرى؟! فالعمل داخل المؤسسة وبين أروقتها بالحضور والفاعلية الكاملين أكثر نفعاً وإنتاجا من (النياح) والصياح من الخارج، وإن كان العصر عصر معلوماتية ونشر معلومات.. لا سيما وأن الجماعة المذكورة سوف لن يكون لها حضورها الفاعل إن هي غابت عن المجالس التشريعية القومية والولائية، وهي محافل تحتاج إلى الإمكانات والموارد العضوية والمادية وغيرها مما لا يتصور أن تحصل عليه في القريب.
فهي – أي جماعة الإصلاح والتصحيح – لن تتجاوز دور (جماعة الضغط) محدودة الأثر والتأثير، إن قدر لها القيام بمثل ذلك الدور، فهل هذا كل ما كانت تطمع إليه وهي تلقي بالمذكرات وتكثر من الحراك السياسي والمجتمعي والفكري؟! بل ويصر القادة الكبار فيها أنهم لن يعتذروا عما رأت لجنة التحقيق أنه مخالفة للإجراءات والنظم المؤسسية وشروط العضوية والبقاء فيها؟
في اليوم التالي للمؤتمر الصحفي لرئيس لجنة التحقيق والمحاسبة، قال الدكتور “عتباني” لصحيفة (أخبار اليوم): قرار الفصل باطل وأسس على باطل.. وإن كل الخيارات أمامهم مفتوحة.. والعمل السياسي ليس مقيداً بالأحزاب ومن الممكن أن تكون فاعلاً في العمل السياسي وأنت لست منتمياً لحزب من الأحزاب (الفاعلية لا تعتمد على الانتماء الحزبي..) وإن تدارك ذلك أيضاً بالإفادة للصحيفة: (وهذا لا يعني أننا سنعمل من خارج الأحزاب).. ونحن كمجموعة علينا أن نتخذ موقفاً.
وإلى أن يظهر ذلك الموقف للإصلاحيين، وبعضهم مهدد بالفصل من الحزب وأمامهم فرصة أسبوعين للاستئناف أو الاعتذار حسب تقرير لجنة التحقيق والمحاسبة، فإننا نجد أن ثمة تردداً من الدكتور “غازي” بين (العمل السياسي الفاعل غير المقيد بالانتماء الحزبي) وذلك الذي لا يكون من خارج الأحزاب.. وهناك بتقديره خياران يتعين الحسم بينهما، لأن المؤتمر الوطني قضى – برأيه – على كل مساعي الإصلاح.
ذلك هو حتى الآن الرأي المحاسبي للمؤتمر الوطني كمؤسسة حزبية تحكمها إجراءات ولوائح ونظم، وبقيت هناك الرؤية السياسية للمذكرة التصحيحية والإصلاحية والحراك السياسي الذي صاحبها، فالرؤية السياسية مطلوبة ومرغوبة لأنها ستكون مكملة ومعينة لهيئة الشورى لكي تتخذ القرار السليم إزاء توصية لجنة التحقيق والمحاسبة، ذلك أن الأخيرة – كما قال رئيسها في مؤتمره الصحفي ظهر ذلك اليوم من الأسبوع الماضي – لجنة فنية قضائية أو شبه قضائية، وليست معنية بالسياسة، وللسياسة في الحزب (المؤتمر الوطني) مرجعياتها.. إذ تناولت المذكرة التصحيحية من السياسة الكثير الذي أشرنا إلى بعضه في فاتحة هذا (المشهد السياسي) وبدايته، وكان من ذلك الطلب إلى الرئاسة الكف عن المعالجة الأمنية للتظاهرات والاحتجاجات التخريبية التي هددت الأمن والسلام الاجتماعي.
وكذلك مطالبتها الرئاسة – التي رفعت إليها المذكرة – بالتراجع عن قرار رفع الدعم الذي يعتقد من كانوا وراءها أنه سبب ذلك كله، وليس ما انطوى عليه البعض من اهتبال للفرص وإثارة للبلابل..
إن الأمر في الحالين وغيرهما يحتاج إلى معالجة سياسية تحيط بالشأن كله، وقد كانت محل اهتمام ونظر الحزب والدولة وأجهزتها المختصة، وكلها لا تأبى الإصلاح والتصحيح، بل تبحث عنه، ولكنها تقدر أن لكل حادث حديث.. والنوايا الحسنة لا تلقى هكذا، بدون ما يلزمها ويلازمها من تقديرات..!
وهناك كما هو معروف مجريات ومداخلات صاحبت الإلقاء بالتصحيحية بين يدي السيد الرئيس، ومنها ولوجها إلى دوائر الإعلام والسياسة بلا إذن أو تفويض من الحزب الذي عرفت الجماعة الإصلاحية بالانتساب إليه، مما أربك الحال وأثار التساؤلات، فالجماعة لم تكتف بحراكها داخل الحزب وأجهزته وإنما تجاوزته إلى غيره، في إشارة إلى أنها في حالة (تمرد) أو خروج عن المألوف والمعروف حسب النظم.
تأسيساً عليه، أدى ذلك كله إلى ما حدث من إجراءات منها فصل البعض وتجميد عضوية البعض وإنذار البعض الآخر، وما شابه من إجراءات.. فقد تحول الإصلاح والتصحيح إلى مخالفات وأخطاء انتهت بالجماعة إلى جماعة خارجة عن حزب المؤتمر الوطني ومرجعياته ومؤسساته، الرسمي منها والشعبي، وتلك نهاية طريق نحسب أن من وصل إليها لن يسعد بها أو يحتفي، ولا سيما إذا ما خلا بنفسه للمراجعة.. حيث هناك تاريخ ومشوار ورحلة عمر – بالنسبة للبعض – كما يقولون..
فالمؤتمر الوطني الذي سيستفيد لا ريب من هذه التجربة المحدودة، سوف لن يخسر جماعة التصحيح والإصلاح التي يقع عليها عبء التكلفة كله، إن لم تتداركها رحمة الله في ما بعد..!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية