الجمال القبطي .. الملهم الراسخ و(الـخفي) في الأغاني السودانية!!
بدأ الأقباط في التوافد إلى السودان تقريباً منذ العام 270م، بعد المعاناة والاضطهاد الديني الذي تعرضوا له وكل المسيحيين على يد أباطرة الرومان، خاصة الإمبراطور “دقلديانوس”، الذي في عهده فقط تم قتل ما يربو على مليون قبطي، وقدم بنفسه إلى مصر ليشرف على عمليات القتل والتعذيب في واحدة من أبشع صور المآسي الإنسانية، ومن هناك اتجهت مجموعات من الأقباط نحو بلاد السودان.. وهكذا بدأت الحكاية.
انصهار وإلفة
وبسبب هذا الحراك الاجتماعي انتشرت اللغة القبطية جنباً إلى جنب مع اللغة المروية القديمة، وتكونت بعد ذلك الممالك المسيحية مثل (المقرة) و(دنقلا العجوز) و(علوة)، وشاهد الناس في تلك الأزمان الطقوس القبطية وعايشوا الأسر واختلطوا بها، وهذا ساعد لاحقاً في إبراز جو من التسامح الديني والإلفة والمحبة جعلت من السودانيين قابلين نفسياً للولوج في عالم الجمال القبطي وباقي ملامح الإلهام الشعري والفني في أنحاء المجتمع القبطي، الذي تطورت وبانت ملامحه عاماً بعد عام وانتشرت هذه المجتمعات في أم درمان، الخرطوم، بحري، الأبيض، عطبرة، شندي، نيالا، بورتسودان، مدني وغيرها من المدن، واندمجت هذه المجموعات إلى حد بعيد وإن حافظت على العديد من الموروثات وخصوصية المجتمع القبطي، الذي لا يميل إلى الظهور أو لفت الانتباه بشكل عام.
حقيبة القبط
عند ظهور أغاني الحقيبة كان للملهمات من المجتمع القبطي الحظ الأوفر، من على شاكلة أغنية:
ببكي وبنوح وبصيح
للشوفتن بتريح
وفي العديد من التسجيلات التي تمت بمصر (أرض القبط) وساهم فيها “ديمتري البازار”، نجد هذا الأثر واضحاً وإن لم يتم الإفصاح عنه بصورة مباشرة أو ادعاء متلازمات أخرى.
ولم يكتف الشعراء بذلك، بل تابعوا وراقبوا أوقات الترفيه والتنزه الذي اشتهر به الأخوة الأقباط، كتجسيد لحب جمال الطبيعة، التي هي من إبداع الخالق عزّ وجلّ، ومظهر من مظاهر ما يمكن أن نطلق عليه السياحة الجمالية.. ومن ذلك أغنية:
أطرد الأحلام يا جميل وأصحى
في ضفاف النيل ننشد الفسحة
التي غالب الظن أنها صيغت يوم (أحد) عقب الخروج من قداس كنيسة بحري.
المسالمة.. معقل الإلهام
ويمتاز حي المسالمة الأمدرماني العريق بوجود قبطي كثيف تاريخياً وحتى اليوم، ولأم درمان وقع خاص لديهم، خاصة المسالمة، ويحرصون على شراء أي شبر يرغب صاحبه في بيعه حباً لهذا التراب في وطنية متجردة.
وفي هذا الحي، وفي ظل هذا الوجود، تعرض شاعرنا الكبير الراحل “التيجاني يوسف بشير” – عليه الرحمة – لسيل ووابل من العيون التي في طرفها حور وصفاء اللون والقلب والسريرة، وعانى ما عانى من ويلات وهجمات تلك الأعين اللائي قتلننا ثم لم يحيين قتلانا، فقال:
قم يا طرير الشباب غنِّ لنا غنِّ
يا حلو يا مستطاب أنشودة الجن
وأعصر لي الأعناب
واملأ بها دني
من عبقري الرباب
ومن حرم الفن
والمعروف أن عصير الأعناب هو النبيذ الذي اشتهر بعد تقديمه في العشاء الأخير، وهو نفس العشاء الذي اشتهرت منه أيضاً المقولة المعروفة (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان).
ورغب “التيجاني” في السفر إلى مصر للاستزادة من العلم والثقافة والجمال، من وحي ما رآه وهو يدرس في خلوة الكتيابي وما عايشه في سكنه قرب الأقباط، ولكن لم تمهله الأيام ومات في ريعان الصبا..
نضر الله وجهها مستودع الثقافة مصرا
ما أراها تزداد إلا بعداً عليّ وعسرا
كذلك اشتهرت أغنية (لي في المسالمة غزال) التي عرف بها الحي كماركة مسجلة!
جانا العيد
وبالمعايشة عرف الناس مواسم الأعياد لدى الأقباط وشاركوهم بها، وأصبحوا يعلمون (صيام العذراء) و(شم النسيم) و(عيد الميلاد) حسب التقويم القبطي الأرثوذوكسي، بل وذهب بعضهم معهم لزيارة (مار جرجس) و(مارمينا) و(الشهيدين)، وحدثت بعض الزيجات المحدودة في هذه المواسم رغم التعقيدات الدينية والمجتمعية الكثيفة، وتتجلى هذه الأعياد في أغنية:
يا مداعب الغصن الرطيب
في بنانك ازدهت الزهور
زادك جمال ونضار وطيب
إلى أن يقول:
دنت الثريا بقت قريب
لو شافك العيان يطيب
في مهرجان عيد الصليب
ونظم شعراء الأغنية حتى في ضيوف الأقباط مثل الإيطالية التي كان نصيبها:
بين رياض الشاطئ وبين قصور الروم
حيّي زهرة روما وأبكي يا مغروم
وكذا المصرية في أغنية (مصرية في السودان)، ومنها أغنية (مسيحية) التي نظمت في إحدى القبطيات في زيارة بين عطبرة وأم درمان، وتوسل فيها الشاعر من أجل نظرة واحدة.. ويبدو أن توسلاته تلك لم تستجب بعد أن قفلت راجعة إلى ديارها!!
ترسيخ مفهوم الجمال
وكان من عاقبة هذا الانجراف في الملهمة الخفية، أن رسخ الشعراء دون أن يشعروا ويحسوا قيماً ومعايير معينة للجمال أصبحت هي الغالبة حتى اليوم، من شاكلة اللون الأبيض وطول الشعر وشكل القوام، التي جعلت أخواتنا وحتى خالاتنا وعماتنا وربما حبوباتنا يصرفن (القدامهن والوراهن) من أجل البُيضة والضَعفة والشَعر الطويل وصبغه باللون الأشقر أحياناً، تشبهاً بتلك القيم.. رغم المحاولات التعبانة في تمجيد (لون زينب) و(اللون الخمري) و(الأخضر لونو زرعي)! كما جعلت فتياتنا ينفرن من (الشلوخ) ويفررن منه كما يفر المرء من الأسد ضاربات بـ (سمحات شلوخها مطارق) عرض الحائط!
{ الملهم الخفي لا يزال خفياً
ورغم كل ذلك لا يزال شعراؤنا (يعملوا رايحين) دون التصريح أو التلميح وكأنهم لم يسمعوا بمن قال:
قف جانب الدير سل عنها القساسيسا
مدامة قدستها القوم تقديسا
بكراً إذا ما انجلت في الكأس تحسبها
من فوق عرش من الياقوت بلقيسا
مالت بها القوم صرعى عندما برزت
بها البطارق تسقيها الشماميسا
مستخبرين سألنا عن مكامنها
توما ويوشا ويوحنا وجرجيسا
فالتحية لكل أهلنا الأقباط، الذين ظلوا وما زالوا يزينون حياتنا في كل منحى جمالاً وحباً ومودة وسلاماً لم نجد به عيباً وتدنيسا!!