قصة هجوم التمرد على قرية (أم علوان) في ثاني أيام العيد
غادرت أم درمان، الأم التي أوينا لأحضانها نحن القادمين من التخوم النائية عن مسغبة عيش وضيق رزق وفجور حروب، وعند أحضانها كان ولا يزال الأمن والأمان والدفء والحنان والعطف، وبذل المطارف والمعارف والتربية ولقمة العيش وكرسي الدراسة والمكتب الأنيق.. وأم درمان أمنا وإن تنكر البعض لها.. غادرتها ثاني أيام عيد الأضحى بعد أن اكتحلت أعيننا من بريقها وجمالها وحنانها.. أودعناها أعز ما نملك، البنين والبنات، وركبنا على دابة الأرض لنبلغ كردفان الجنوبية في رحلة تمتد إلى أكثر من (700) كلم.. كان يمكن أن تصبح فقط أربعمائة كيلومتر لو نهض طريق (بارا – أم درمان)، لكن.. وآه من لكن.. وتحتفظ ذاكرتي لسنوات وسنوات واحتفى في ذاتي بما ردده شاعر منسي الآن لسبب أو آخر.. إنه د. «محمد الواثق» هو ينعي حالنا.. (ما كنا في السودان نعاني ضيق معيشة لو ساد في السودان أهل البصائر).
وأي نعي ذلك الذي قاله «الواثق» المرفوض شاعراً وأديباً في عدد من المدن كأم درمان وكسلا وكوستي.. والطريق للأبيض موحش وحزين ومترع بذكريات من حصدت أرواحهم حوادث السير!! والطريق إلى جبال النوبة يخفق له القلب من فواجع الحرب ومآسي الموت وسوداوية الأيام القادمات.. ولو عاش الفذ العبقري «عبد العزيز العميري» حتى اليوم لاعتذر جهراً عن قصيدة خطها يراعه عن الأبيض (عروس الرمال) لما حاق بها اليوم.. و»العيمري» يصدح مغنياً وممثلاً ومادحاً ومسرحياً:
بعيد يا أخوانا بتذكر حلاوة الذكرى
لما تهف في أعماقنا تتحكر
محال من نظرة نحن نخون ولي ماضينا نتنكر
أصلو عمرنا جدول شوق وحبة ذكرى ما أكتر
بعيد يا أخوانا بتذكر حليل الخور يفرحنا ومويتو
تفيض وتتبعثر
ونبني بيوتنا بي طيناً نسيبها نفوت وتتكسر
نمشي الأبيض فرحانين نفتش علبة السكر
بعيد يا أخوانا بتذكر شوارع الحلة والدكان
ولون الشارع الأسمر
وحاجة تبيع تسالي وفول وتحت نيماً ظليل أخضر..
تلك هي الأبيض عاصمة كردفان في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات على حالها القديمة.. مدينة شوارعها من تراب ومدارسها ترمز إلى فضيلة الحاكم «الفاتح بشارة» في العهد المايوي، وإنسانها إما مهاجر لأم درمان أو لبلاد ترامت وراء بلاد.. ورمزية الأبيض باقية في النفوس حتى ولو من خلال ضابط السجن الفريق (م) «الشيخ الريح السنهوري» سليل أسرة السناهير.. هؤلاء كانت لهم في كردفان أيام ولكنهم (رحلوا خلونا) ليبقوا في نفوسنا (ناس معزتنا ما بنريد غيرهم)!
الطريق إلى الأبيض عند الرهد أبو دكنة يثير في النفس انقباضة وحزناً وحسرة على بيوت من المشمعات وبقايا الكرتون تناثرت على جانبي الطريق.. وأطفال يلهون ويتقافزون، وفتيات لا يعرفن دروب التعليم.. آلاف الضحايا من أبي كرشولا تقتلهم الحسرة في يوم العيد مرتين.. يموتون بالذكرى والشوق لديار أصبحت بعيدة رغم قربها من الرهد.. ويموتون بتجاهل الحكومة لمأساة (31) ألف نسمة يفترشون الأرض.. مصيرهم مجهول ومستقبلهم مظلم.. يتوقون للعودة إلى ديارهم.. شعارهم بالحرب (عائدون) وبالسلم (عائدون)، ولكن للحرب مطلوباتها، وللسلم إرادة وعزيمة وخطة وبرنامج وقدرة على تقديم التنازل عن أعز ما عند الحكومة (الكرسي)!
وعند عبور جبال كردفان.. كانت الأسر في فصل الخريف والأعياد تخرج لتروح عن نفسها! لكن الآن يسكن الناس بيوتهم خوفاً من التمرد وقلة الزاد، حيث حرم الفقر والعوز الشباب من الابتسامة في يوم العيد.
وصلنا الأبيض صباح ثاني أيام العيد، وبدت المدينة صامتة كأنها تصغي إلى موسيقى كلاسيكية.. ولو عادت السنوات القهقرى لما كتب «محمد حامد آدم» الشاعر المرهف الإحساس عن كردفان ما كتب في سبعينيات القرن الماضي، حينما شدا بلحنه «عبد الرحمن عبد الله»
طوف سهولا وأعبر جبالا
ومر بكل وديانا وتلالا
تلقي ريلاً يغريك دلالا
والأسود الحارسة الحجال
أمشي بارا ومر بأم روابة
والنهود الآسر شبابه
في الأبيض غرد حبابه درة رايعة وحايزة الكمال
نعم، تستطيع أن تطوف بعض السهول اليوم ولكن جبال كردفان سكنها التمرد ونزع من قلوب أهلها السكينة.. وأضحى الجبل رمزاً للموت بدلاً عن الحياة.. أما (الريل) ففقد (انقرض) والوصول إلى بارا من الأبيض سهل لا يتجاوز نصف الساعة أو تزيد قليلاً.. ولكن بارا التي خلدها الشاعر لم يتبق منها إلا أطلال الذكرى.. هاجر أهلها، ونزحوا لبلاد بعيدة، وجفت حدائق الليمون والبصل والعنب والتفاح وسكن المدينة الخوف من الغد.. أما النهود التي أنجبت القضاة العدول والإعلاميين (الوسيمين) والإداريين الأفذاذ، فظلت تطالب بنصيبها في السلطة وحظها أن تصبح عاصمة لولاية.. ولكنها لم تحظ إلا بوعود إثر وعود حتى قاد الناظر «عبد القادر منعم منصور» تظاهرة في وجه السلطة.. ومثل «عبد القادر» لا يعصي للسلطان أمراً لكنه جور الزمان وظلم الحكام.
{ في القوز هناك أحَضروا
الدبيبات مدينتي أو إن شئت قل قريتي.. فللمدينة علامات صغرى وكبرى وللقرية مذاق وطعم، والدبيبات ارتقت إدارياً إلى محلية وبات يحكمها معتمد يرفرف في مقدمة سيارته علم ويحرسه جنود أشداء على المواطنين ومن يقترب من المعتمد.. ولكنها ذات المدينة تعطش صيفاً و(تبرد) شتاءً ومدارسها على حالها منذ عام 1975م حينما زارها «جعفر نميري» لافتتاح طريق (الدبيبات – كادوقلي) بطول (187) كلم.. في كل عيد تخرج فلذات المدينة لفضاء بعيد في رحلة اجتماعية ينهض بها شباب وقيادات المدينة ورموزها.. من التجار «محمد مطر» والسيد «عكاشة» و»الهادي هارون ود الجبل»، ونائب رئيس المؤتمر الوطني «صلاح حسن القناوي» القيادي القادم في مقبل الأيام للمقعد الدستوري وإن تمنع الآن.. و»مصطفى موسى» و»محمد عيد» و»البليل» وشباب آخرون.. وغاب عن المشهد لأول مرة الدكتور «أحمد عثمان خالد» المحاضر بجامعة الدلنج.
كان الاحتفاء بالضيوف والقادمين الجدد.. المعتمد «أبو بكر أحمد خليفة»، ووزير الصحة الدكتور «عبد الله التوم الإمام»، والدكتور «إبراهيم مضوي» الأمين العام لوزارة الصحة.. اتجهت السيارات اليابانية صوب قرى منسية شمال غرب الدبيبات في قلب أرض كنانة تلك القبيلة العربية التي وفدت من الجزيرة العربية واحتفظت بالكثير من سماتها البدوية.. قرى الشقة أولاد داوود، هؤلاء رعاة الإبل الأثرياء.. والسليك، و(أم غوغاية) وقرية عنق الرهو والدبة والفريق.. شعب وراء الهامش.. لا خدمات صحية ولا تعليم ولا حتى دعوة إسلامية رغم أن منظمة (أيادي المسلمين) بسطت خيرها على الريف المنسي.. أكثر من (192) مسجداً و(250) محطة مياه هي بعض من خير وفيض إنساني للدكتور «إسماعيل عبد الله بدر» و»إسلام عبد الله بدر»، ولو كان للرجل مطامع سياسية ويبتغي من وراء ما يقدمه من خير مقابلاً، لقدمته المنطقة لينوب عنها في البرلمان، ولكن الناس هناك لا يرجون من مؤسسات الدولة خيراً.. وإلا ما كانت طالبة مثل «ابتسام» التي كانت تدرس في مدرسة الحتانة أساس حتى الفصل الثالث، ما كانت لتقدم هي وأمها الصابرة «كلتومة» الوالد فداء للسودان.. استشهد الوالد في مسارح العمليات، فضاقت الحتانة بـ»كلتوم» وابنتها «ابتسام» لتعود إلى قرية عنق الرهو، ولكن «ابتسام» أصبحت (فاقداً) خارج منظومة التلاميذ واستبدلت الحبر والكراسة والكتاب بمهنة جلب الماء والعشب ورعي الماعز.. تداعب «ابتسام» (حمارها) وهي فرحة لوجودها في قرية عنق الرهو.. تلك القرية المحزونة حالها كحال ذلك الأعرابي (البقاري) الذي جسده المخرج التشادي «عبد الله عبد الكريم» في مسرحية تم عرضها في مهرجان البقعة عام 2011م.. دار حوار باللهجة التشادية بين عسكري يمثل السلطة في أبهى تجلياتها وصلفها وغرورها وعربي بدوي نصيبه من التعليم مثل نصيب «ابتسام» في مقبل الأيام.. سأل العسكري الأعرابي عن علم يرفرف عالياً.. إنه علم الدولة ورمز سيادتها، فقال الأعرابي (ده جنقور ساكت كي) أي هي خرقة قماش لا أكثر ولا أقل.. غضب العسكري وتقمصته روح السلطة وشهوتها وصولجانها.. فقرر غرامة على البقاري قدرها (20) بقرة بتهمة إهانة رمز الدولة وعلمها الذي يمثل قيمتها.. فبهت البقاري المسكين كما جاء في كتاب (سيرة الترحال عبر الأطلنطي) للسفير «خالد موسى دفع الله».. والسلطة في الأرياف لا يعرف عنها الناس خيراً كثيراً ولا قليلاً.. بل في أحيان كثيرة تبدو أكثر جبروتاً حينما تفرض الإتاوات والضرائب على شعب لا تطعمه من جوع ولا تأمنه من خوف، ولنا في القصة التالية دليل إثبات وشاهد على ما نقول.
{ أم علوان والهجوم الغادر!
قبل يوم من عيد الأضحى المبارك ورد في مقالتي (خارج النص) بأخيرة (المجهر) تحت عنوان (خوفي منك)، أن الأعياد دائماً تأتي في ثناياها المحن والكوارث حتى بدأ الخوف يتسلل لدواخلنا بمجرد حلول مواسم الأعياد والاحتفاليات.. وللفريق «محمد بشير سليمان» حضور في النباهة والتقاط الأشياء والتعبير بطريقته الخاصة، حيث كتب معقباً في رسالته (بل خوفي منك وخوفي عليك).. وقبل جفاف حبر الخوف وفي ثاني أيام عيد الأضحى، وعند الساعة الثانية عشرة ليلاً هاجمت عناصر من الجبهة الثورية والحركة الشعبية قطاع الشمال قرية (أم علوان) الواقعة شمال الدلنج (35) كلم، وجنوب الدبيبات (25) كلم.. قرية لا يتجاوز عدد مساكنها الـ(50) منزلاً.. لا وجود فيها لقوات مسلحة وحتى الشرطة بعيدة عنها بنحو (5) كلم عند منطقة الفرشاية.. تسلل التمرد من جبال (الفراقل) و(الصبي) وهي منطقة أنجبت الشهيد «مكي علي بلايل» والآن تعيث فيها قوات التمرد فساداً في الأرض، وتتمدد شمالاً إلى الفرشاية والدبكر بولاية غرب كردفان ولمناطق ود ملكي والخروب، ولا تردعها حكومة ولا تخاف إلا وحل الطريق في فصل الخريف وشح الماء في الصيف.
بدأ الهجوم على قرية (أم علوان) التي تقطنها مجموعات من كنانة والبرنو والحوازمة.. القوات التي هاجمت القرية لا يتعدى قوامها الـ(50) فرداً مسلحين بالبنادق الخفيفة والأربجي والكلاشنكوف والرشاشات.. دخلوا البيوت الآمنة خلسة.. هددوا الرجال، أجلسوهم على الأرض ليرفعوا الأيادي للسماء.. ثم أخذوا ينهبون ما خف وزنه وغلا ثمنه! لم يتركوا حتى حلوى العيد وملابس النساء وزيت الطعام.. كسروا يدي شيخ يبلغ من العمر (70) عاماً.. ضربوا الشباب بمؤخرة البنادق على أعناقهم وظهورهم.. حصيلة المنهوبات نحو (11) ألف جنيه وثلاثة مواتر سوزكي وصيني وخمس دراجات هوائية.. كل أجهزة الهاتف.. شرائح الطاقة الشمسية.. وعند الساعة الخامسة من صباح ثالث أيام العيد غادرت القوة (الفاتحة) قرية (أم علوان) بعد إطلاق نيران كثيف أثار الرعب في نفوس المواطنين، ولم تجد قوات الجبهة الثورية من يردعها.. وهكذا تناولنا الشواء على الجمر وشرب نصف السودانيين (الشربوت) واحتضنوا أطفالهم آمنين، ولكن (أم علوان) جراحها نازفة ولم تجد حتى حظها في أن يذكرها أحد في أجهزة الإعلام.. وربما لم يسمع باعتداء التمرد عليها حتى حكومة كادوقلي التي لا ينتظر منها الناس ما هو فوق طاقتها، ولكنهم يتشبثون بالأمل في غدِ ربما يكون خيراً من حاضر تعيشه الآن.