أكتوبر الأخطر!!
ماذا يريد أبناء دينكا نقوك.. وبإيعاز ممن يصرون على إقامة الاستفتاء بشكل أحادي في أكتوبر؟ وهل حكومة جوبا توافق على هذا الإجراء؟ أم أن الأمر خرج من يدها؟! أسئلة كثيرة تطرح نفسها كلما تصاعدت نبرة الحديث عن استفتاء أبيي الذي كنا نظن أنه مجرد ورقة ضغط يتم التلويح بها كلما شعر الأخوة الجنوبيون في أبيي أن قضيتهم لم تعد في واجهة الاهتمام السياسي.
الواضح أن المسألة تتجاوز هذه المرة مجرد التلويح إلى محاولة وضع نهاية سريعة وخاطفة من طرف واحد استغلالاً لظرفية حالة التوافق التي تعيشها جوبا والخرطوم، ويقين دينكا نقوك أن خطوتهم باتجاه استفتاء أحادي لن تجعل الخرطوم تتخذ مواقف متشددة تعصف بهذه العلاقة الناشئة. وهي قراءة تحمل تداعيات أخرى يتم تجاهلها بعمد أو دونما عمد، حيث لا يمكن للخرطوم أن تقف مكتوفة الأيدي في قضية بحجم أبيي.. كما أن جوبا تعلم جيداً أن إجراء هذا الاستفتاء بطريقة أحادية سيفضي حتماً إلى تعقيدات كبيرة، يمكن أن تعصف بكل الجهود التي بذلت حتى الآن لتعزيز الثقة والعبور بالملفات العالقة من مرحلة الأزمة إلى الانفراج، حيث لا يعقل أن جوبا التي أثبتت مؤخراً جدية بائنة لردم الهوة بينها والخرطوم يمكن أن تكون ضالعة في أي سيناريو يعيد هذه العلاقة إلى المربع الأول، مثلما لا يعقل تماماً أن تكون أعطت الضوء الأخضر للاستفتاء بغرض التحصّل مثلاً على مكسب آخر لا علاقة له بأبيي طالما أن المكاسب المتحققة لها حتى الآن تكاد أن تكون هي كل ما كانت تطالب به تقريباً.. فلماذا تتورط جوبا في سيناريو تعرف جيداً أنه سيقابل برد مكلف من الخرطوم؟!
هذه الفرضيات تجعل حكومة “سلفاكير” غير معنية بشكل مباشر من الدخول في الوقت الحالي على الأقل في خصومة جديدة مع الخرطوم، حتى لو كان ذلك يرضي تطلعات قيادات دينكا نقوك النافذين، حيث الأرجح أن الدعوة لإقامة استفتاء أحادي هي تحرك أحادي أيضاً من قبل قيادات دينكا نقوك، مدعومين من جهات لا تريد التقارب الناشئ بين الدولتين الجارتين، وهؤلاء جميعاً لا تعنيهم كثيراً المآلات الكارثية لخطوة الاستفتاء، وربما يقصدون تماماً نصب هذا الفخ، خاصة وأن بينهم من ظل يرفض علانية أي تطبيع بين جوبا والخرطوم.. غير أن هذا كله لا يعفي جوبا من ضرورة ممارسة الضغوط الكافية لقطع الطريق أمام خطوة الاستفتاء في أكتوبر الذي هو الأخطر على سيرورة العلاقة بين الخرطوم وجوبا في حال أُجري الاستفتاء بشكل أحادي مباغت، ورغم أن مراقبين كثر يستبعدون حدوثه، حيث لم يتبق من أكتوبر إلا أيام قلائل، لكن من الضروري التحسب لكل الاحتمالات في ظل التعبئة الحاشدة التي ترصدها وسائل الإعلام الإقليمية والدولية للاستعدادات التي تسير على قدم وساق لانطلاقة الاستفتاء، الأمر الذي قد يجعل إمكانية قيامه واردة، ويجعل أيضاً أكتوبر هو الأخطر ما لم تتحرك القيادات السياسية بالبلدين في أعلى مستوياتها لاحتواء هذه القنبلة الموقوتة ومنعها من الانفجار، وهو حراك لا ينتصر لطرف على حساب الآخر، وإنما يعيد الكرة مجدداً إلى ملعب أبيي نفسه، وحثّ المسيرية ودينكا نقوك على الجلوس معاً للاتفاق على إدارة مشتركة وإقامة المؤسسات التي تضمن الأمن والاستقرار، ومن بعد ذلك التباحث العقلاني غير المشروط للوصول إلى تسوية عادلة ومرضية للطرفين، سواء بإقامة الاستفتاء في توقيت ملائم يتم الاتفاق عليه دونما إقصاء لطرف، أو الذهاب إلى خيار التقسيم، أو ترك أبيي كما هي منطقة مفتوحة تمثل أنموذجاً حضارياً للتواصل والتعايش والانسجام، مع وضع الترتيبات الواقعية التي تضمن الأمن والاستقرار وتحقق المصالح المشتركة لسكان المنطقة والبلدين على حد سواء.
وضع الكرة في ملعب المكونات السكانية لأبيي، يستلزم من القيادات السياسية في البلدين تهيئة المناخات السياسية المواتية للوصول إلى التسوية المأمولة، كما يتطلب محاصرة من يحاولون استثمار ملف أبيي لخدمة أجندة لا علاقة لها بقضايا المنطقة بقدر ما تحاول هدم جسور الثقة التي بدأت تتعزز بين دولتي السودان وجنوب السودان، إن كان الطرفان بالفعل حريصين على هذا الواقع الجديد ولا مصلحة لهما في إفشاله وهدمه.
أهل أبيي أدرى بشعابها، وهم الأحرص على أمنها واستقرارها وتنميتها وازدهارها، وفيهم العاقل الرشيد الذي يملك حكمة نزع فتيل الأزمة وقتما تهيأت الظروف وتم قطع الطريق أمام التدخلات السالبة.
هذا يجعل من الضروري أن تتصدر أبيي قائمة الملفات التي سيتم بحثها خلال زيارة الرئيس “البشير” إلى جوبا المتوقع لها اليوم، وأن تتخذ قرارات شجاعة تعكس إرادة الحكومتين في وضع المعالجات السياسية الواقعية التي تحول دون تعقيد الوضعية أكثر، لأن إرجاء الحلول وتجميد المعالجات سيظل يلقي بظلاله السالبة ويدفع بطرفي الصراع لاتخاذ خطوات أحادية تربك المعالجة، وتؤثر على العلاقة الإيجابية في الوقت الراهن بين الخرطوم وجوبا.