أخبار

استراحة الجمعة

} نهض “سيد أحمد” من منزله بالإسكان الشعبي مسرعاً بحيوية الشباب رغم أن الدهر قد رسم بصمات على الوجوه واليدين المعروقة.. لكنه يرتدي بنطالاً وقميص ويرسل شعره على طريقة “إبراهيم عوض” في سبعينيات القرن الماضي.. “سيد أحمد” أشهر (معلم) صنعته ليست (الطبشور) و(الكتب) بل (المسطرينة) و(القدة) و(ميزان الماء).. كان عامل يومية بسيط لكنه أصبح منافساً للمهندسين من خريجي كليات المعمار.. كثيرة هي البيوت الفاخرة التي شيَّدها المعلم “سيد أحمد” يباهي في تربيزة (الدومنا) بأنه شيَّد منزل “سعد أبو العلاء” في (خرطوم اثنين) وشيَّد منزل “علي قاقرين” في الثورة، وكان محبوباً جداً وسط الاتحاديين رغم نزعته الاشتراكية وشيء من الشيوعية القشرية متأثراً بخطب “عبد الخالق محجوب” حينما يزور (عطبرة).
} جلس “سيد أحمد” في المقاعد الأمامية لبص الوالي.. ترسبت نسمات مبرد الهواء لجسده الذي شوته حرارة الصيف القائظ.. أخرج كيسه ووضع (سفة) على فمه.. واعتدل في جلسته ليسأل جاره في المقعد والذي كان يتصفح مسرعاً صحيفة رياضية استعارها من راكب آخر.. فسأل “سيد أحمد” جاره الهلال غالب كم؟ جاءته الإجابة صادمة: الهلال تعادل وأصبح الفارق بينه والمريخ خمس نقاط.. بدت عليه الحسرة على زمان كان “سيد أحمد” يذهب لإستاد الهلال وقلبه مطمئناً بفوز الأزرق.. سائق بص الوالي شاب وسيم معطر الهندام والكمساري يرتدي بنطالاً من الجينز و(تي شيرت) أسود.. قال للسائق أطربهم يا “عثمان”.. تسربت موسيقى يألفها “سيد أحمد” ويحفظها منذ ستينيات القرن الماضي.. غنى “محمد عثمان وردي” (مافي داعي) الأغنية التي كتب كلماتها “محمد عثمان كجراي” عام 1961م بمدينة (واو) والتي أصبحت عصية على أحبابها وعشاقها من السودانيين الشماليين بعد أن قسمت السياسة الوطن إلى دولتين.. أخذ” سيد أحمد” يدندن مع “وردي” (لو بأيدي كنت طاوعت الليالي وكنت ذللت المحال).. حاول أن يتخلص من (سفة) التمباك ولكن الأبواب مغلقة والخرطوم ما تزال بعيدة.. وعند (محطة مكي) بالقرب من الشهداء توقف البص، فسارع للتخلص من (سفة) ذابت مع الريق وأصبحت مادة سائلة.. رمى بها من غير اكتراث لتسقط في ثياب امرأة هرولت مسرعة نحو الباب لتجد لها مقعداً.. امرأة قصيرة القامة (مشلخة تي) تمثل آخر جيل من نساء الزمن الجميل.. قالتها بصوت مرتفع (يخسي عليك يا راجل وسختني).. شعر “سيد أحمد” بالخجل والحسرة.. راودته فكرة مغادرة البص السيدة وقفت شماعة.. ولكن الشاب الذي كان يقرأ الصحيفة الرياضية نهض من مقعده لتجلس السيدة جوار سيدة.. فاحت رائحة طيب النساء كبار السن فالعطر النسائي (خشم بيوت).. تذكر “سيد أحمد” رائحة ثوب والدته الراحلة منذ سنوات، نظر إلى السيدة التي جلست بالقرب منه.. فتحية نعم فتحية.. نظرت إليه وقالت: “سيد أحمد” نعم.. أنا “سيد أحمد”.. نهض من مقعده ونهضت هي الأخرى.. تعانقا بود وحميمية وعطف وذكريات وأشواق.. بدأت قصتها مع الرطوبة وآلام المفاصل والضغط.. وأشياء أخرى وحدثته عن بناتها “سهير” في (السعودية) و”إخلاص” في (نيالا).. ووفاة المرحوم أبو الأولاد في حادث حركة بطريق مدني – الخرطوم.
نظر إليهما طالب كان يجلس خلفهما وهو يصغى لحوار الكبار، وقال ساخراً: (التقى جيل البطولات بجيل التضحيات).. أخذت “فتحية” تضحك بصوت خافت، و”سيد أحمد” يفكر في الأيام الخوالي، مر طيف الذكريات مسرعاً وبدت الرحلة من (محطة مكي) بالقرب من الشهداء بأم درمان لقلب الخرطوم أقل من دقيقة وصوت المطرب “وردي” ينساب متغلغلاً في العواطف الجياشة، و”فتحية” شعرت بعافية الروح قبل الجسد وأيام “سيد أحمد” في الحي.. وأخذت تغني بصوت سمعه الجار الثالث في البص مع “وردي” (قلت أرحل أشيل خطواتي)، فنادى الكمساري على الركاب انتهت الرحلة، واتجه “سيد أحمد” شرقاً و”فتحية” غرباً وتبادلا نظرات ربما تكون الوداع الأخير.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية