أخبار

(فصول) التي توقفت!!

توقفت (فصول).. وتوارى دكتور “عز الدين إسماعيل” الذي كان يترأس تحريرها.. هذه المجلة أضافت لجيلنا الكثير، ووسعت من مداركنا ومعارفنا، وكنا نتلهف على اقتنائها والاحتفاظ بأعداد الطبعات الكاملة منها.. لذلك ما زالت تتصدر واجهة مكتباتنا رغم توقفها وظلت تمثل مرجعية موثوقة نتكئ عليها فيما نتناوله من أفكار ونبحثه من أطروحات.
شيء مؤلم جداً أن تتوقف (فصول)، لأنها باختصار جسدت عصارة أفكار أسماء مهمة في مجالات الفكر والنقد والإبداع، وحملت أفقاً معرفياً مغايراً اتسم بالتجديد والجرأة والخروج عن المألوف والسائد.. شيء مدهش جداً أن تتوقف في مصر التي كانت تصدر منها.. مصر التي رغم الضغوط المرحلية التي تعرضت لها ما زالت الأكثر نشراً وتوزيعاً للإصدارات والمجلات، مما يجعلنا بعد مرور كل هذه السنوات من توقف (فصول) نتساءل عن أسباب وأد التجربة بعد أن نضجت تماماً وكونت قاعدة قراء غير مسبوقة.. لا نظن أن (التمويل) هو السبب الرئيس، فالمجلة كانت توزع بشكل لافت.. وإذا افترضنا جدلاً أن (التمويل) هو أحد الأسباب، لكنه لن يكون أهمها وأولها، وإنما العقبة الحقيقية من وجهة نظرنا تتمثل في (انهزام المشروع المعرفي بكامله).. وهو مشروع ارتبط بحركة التحرر الإنساني والتكريس الحضاري للأمة في تجلياتها الفكرية والإبداعية، مما يؤشر بجلاء إلى سقوط معلن للأيديولوجيا في محاولاتها المستميتة لرسم هوية المنطقة وترسيخ المفاهيم المعرفية والجمالية التي يمكن أن تنبني عليها في مقابل مناخات العولمة بإملاءاتها القاسية واشتراطاتها الاستعلائية الصعبة.
رحل الكثيرون ممن حملوا لواء الفكر التجديدي، وانحاز آخرون للصمت نأياً عن صخب الثقافات الدخيلة وعلو صوت التسطيح والخواء، فيما حاولت قلة مقاومة تيار (الردة العقلية) و(النكوص القيمي)، لكنهم للأسف اختلفوا فيما بينهم وعجزوا عن الالتفاف حول خارطة طريق تفضي إلى تجاوز الأزمة وانشطرت الرؤية، وتشظت الأقلام هنا وهناك.. فكيف لا تتوقف (فصول) ومعظم المشروعات الإعلامية الجادة التي ما عادت كما يتهكم البعض تجتذب الاهتمام وتستلفت النظر، وبات محكوم عليها بالفشل والتغريد خارج السرب!!
(فصول) حلقة مهمة في مشروع معرفي لم يكتب له الاستمرار، طويت صفحته برحيل عمالقة في الفكر والأدب والنقد، ظلوا يرابطون على سقاية العقول ورفدها بالفكرة الطازجة والحية.. وقد أتاحت لنا الظروف أن نتتلمذ على يدي الكثير منهم في سنوات كانت فيها القاهرة ترسل ضوءها بقوة متناهية، وتستوعب أعداداً مقدرة من طلاب العلم والمعرفة.
تتلمذنا على يد الدكتور “عز الدين إسماعيل” وكوكبة فخيمة في المرحلة الجامعية وما فوقها، بل وحالفني الحظ أن تشرف على بحثي في الدراسات العليا الدكتورة “سهير القلماوي” التي أرهقتني كثيراً قبل أن تمنحني درجة مشرفة جداً في الدبلوم العالي، وفي كل يوم أكتشف ثمن هذه القسوة وكيف أضافت لي الكثير.. ذات هذا الجيل الذي كان يصنع المناخ الثقافي آنذاك ويفتح الأبواب على مصراعيها لتلاقح الأفكار وحماية العقل من مغبة التيه أو الذوبان في الوافد من ثقافات.. لم يكونوا رافضين للآخر أو ناكرين لجهوده في العلوم والمعارف.. كانوا على صلة وثيقة بتلك الأطروحات الوافدة، لكنهم في ذات الوقت ظلوا يقدمون بضاعتهم بثقة وكبرياء وينافحون عن خطابهم بموضوعية مطلقة، لذلك وجدوا احتراماً وتقديراً في مصر وخارجها، ونجحوا في تخليد أسمائهم من خلال تلاميذهم الذين ينتشرون في بقاع واسعة في المنطقة.. تقاسموا متعة التتلمذ على أيدٍ مطبوعة بالكرم المعرفي والعطاء اللا محدود.
من الضروري بمكان الدفاع عن استمرار ذاك الحراك الفكري الذي تعطل أو تباطأ كثيراً في السنوات الأخيرة، والنماذج في مصر ليست وحدها التي تحملت هذا العبء الحضاري، وإنما في ذات الفترات كانت هناك مساهمات مقدرة في دول عربية أخرى بينها السودان الذي أفرز حالة فكرية نشطة ومتجددة، شابها لاحقاً ما طرأ على الحلبة الثقافية في مصر والبلدان الأخرى بما يعزز فكرة التراجع اللافت للعقل العربي، وهذا ما أكده بوضوح دكتور “محمد عابد الجابري” في تناوله المستفيض والمتعمق للأزمة، وآخرون كثر ما زالوا يحاولون الإجابة عن سؤال لماذا توقفت (فصول) والإصدارات الشبيهة بها؟! ولماذا تراجع المشهد الثقافي وتساقطت رموز التجديد الفكري وخفت صوت العقل؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية