الفقر في السودان.. الواقع أكثر تأزماً !!
لم يكن حديث الأمين العام لـ(ديوان الزكاة) «محمد عبد الرازق مختار» للإذاعة السودانية أمس الأول عن تزايد الفقراء في البلاد إلى (3) ملايين أسرة بالأمر المستغرب، لأن التغييرات الاقتصادية الأخيرة، والتي من الممكن اعتبارها قد أحدثت تحولاً كبيراً في ميزانيات الأسر السودانية، ركلت تلك التحولات كثيراً من الأسر إلى مستنقع الفقر الآسن، وليس ثمة ما يشي إلى أن جديداً سوف يتبدل خلال وقت قريب، ففي أعقاب القرارات الاقتصادية الأخيرة وجدت كثير من تلك الأسر أن ما كان يقيم أودها من بضعة جنيهات حسوما خلال الشهر أو العام لا تكاد الآن تغطي النذر اليسير من الاحتياجات الضرورية من مأكل وملبس وعلاج، وبدا أن كثيراً منها سوف يتخلى مرغماً عن المهم ليحصل على الأهم.
الفقر يغزو الأسر
رغم أن مؤشر الفقر متعدد الأبعاد الذي تم تحديثه في تقرير الأمم المتحدة لعام 2013م كشف عن تقاصر ظاهرة الفقر في معظم البلدان العالمية نتيجة دراسة أكاديمية بريطانية توصلت إلى أن بعضاً من أفقر الناس في العالم أصبحوا أقل فقراً بكثير، واعتمدت الدراسة التي أجرتها مبادرة الفقر والتنمية البشرية بـ(جامعة أكسفورد) البريطانية، نهجاً جديداً في قياس الحرمان، وتنبأت بأن الدول التي تعد من بين الأكثر فقراً في العالم قد ترى قضاء على الفقر المدقع في غضون (20) عاماً إذا استمرت المعدلات الحالية، إلا أنه على ما يبدو أن هذه الدراسة لم تأخذ في حسبانها ظاهرة تأثر كثير من دول العالم بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتعرض لها كثير من دول العالم الأشد فقراً، والتي أثرت بشكل مباشر وصريح على الاحتياجات الضرورية للأسر، ولعل السودان كان من أكثر الدول التي تضررت بشكل مباشر وصريح جراء تلك الأزمة التي اشتد أوارها بعد فصل الجنوب عن الشمال حاملاً معه كثيراً من أموال البترول التي كانت تغذي خزينة الدولة وتُسير دولاب العمل في البلاد.
«أحمد حسين عبد الملك» الذي يعمل موظفاً في شركة خاصة أكد لـ(المجهر) أنه يتوقع أن يتدحرج إلى فئة الفقراء بعد القرارات الاقتصادية الأخيرة، مشيراً إلى أن ارتفاع أسعار كل السلع بلا استثناء من شأنه أن يجعله يتخلى عن أشياء ضرورية للغاية، وأن دخله المحدود سيتركز على تلبية حاجات الأكل والشراب فقط، وما يتبقى يمكن توجيهه للحالات الطارئة مثل المرض والموت، مبيناً أن المرحلة المقبلة لا مكان فيها لبنود المجاملات الاجتماعية، وليس فيها كذلك متسعاً لسلع الرفاهية مثل زيارة الحدائق ومباريات كرة القدم، وأضاف: (بعد ده كلو إن شاء الله تحوق)، بيد أن «سميرة عادل» التي تعمل موظفة في إحدى المؤسسات الحكومية أكدت لـ(المجهر) أنها سوف تعاني وأسرتها كثيراً في توفير (حق الأكل والشراب فقط) وذلك لأن معظم السلع الأساسية قد طالها سوق الغلاء، لافتة إلى أن الأيام ستكون حبلى بالمعاناة المفرطة، وأنها لا تستطيع أن تتنبأ بما سوف يحدث خلال الأيام المقبلة، لأن أمر توفير مطلوبات الحياة الأساسية بات رهيناً بأيدي التجار والسوق الذي يصعد ويهبط بحسب متطلبات ما يقتضيه تعامل القائمين على أمره.
واقع مخيف
الخبير الاقتصادي «د. علي محمد موسى» قال لـ(المجهر) إنه لا يوجد اتفاق دولي حول تعريف الفقر نظراً لتداخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشكل ذلك التعريف وتؤثر عليه، إلا أن هناك اتفاقاً بوجود ارتباط بين الفقر وإشباع الحاجات الأساسية المادية وغير المادية، وعليه فهناك اتفاق حول مفهوم الفقر على أنه حالة من الحرمان المادي الذي يترجم بانخفاض استهلاك الغذاء كماً ونوعاً، وتدني الوضع الصحي والمستوى التعليمي والوضع السكني، والحرمان من السلع المعمرة والأصول المادية الأخرى، وفقدان الضمانات لمواجهة الحالات الصعبة كالمرض والإعاقة والبطالة وغيرها، مضيفاً أن للحرمان المادي انعكاسات تتمثل بأوجه أخرى للفقر كعدم الشعور بالأمان وضعف القدرة على اتخاذ القرارات وممارسة حرية الاختيار ومواجهة الصدمات الخارجية والداخلية. وبمفهوم مبسط للفقر يعتبر الفرد أو الأسرة التي تعيش ضمن إطار الفقر إذا كان الدخل المتأتي له غير كافٍ للحصول على أدنى مستوى من الضرورات للمحافظة على نشاطات حياته وحيويتها، وتابع: وإذا أسقطنا تلك المؤشرات على الواقع السوداني، نجد أن غالبية الأسر المتوسطة والفقيرة والمعدمة لا تستطيع توفير تلك المطلوبات.
وكشف آخر مسح للفقر في عام 2009م قبل انفصال الجنوب، أن (46%) من سكان الشمال تحت خط الفقر و(57،6%) من سكان الريف، وكانت وزارة الرعاية الاجتماعية أوردت أن هناك مليوني عائلة فقيرة في السودان بينها (300) ألف عائلة معدمة ولا تجد قوت يومها، ويتزامن المسح مع أزمة اقتصادية حيث توقع محللون اقتصاديون تزايد معدلات الفقر بشكل لافت في السودان، فيما يعتزم الجهاز المركزي للإحصاء بالسودان توزيع استمارة قياس مستوى الفقر بالبلاد في العام 2014م.
حبة قروش ما بتسوي شي
وزارة الرعاية الاجتماعية بالخرطوم قدمت دعماً مباشراً للأسر الفقيرة يبلغ (150) جنيهاً للأسرة الواحدة في إطار خطتها لرفع المعاناة عن المواطنين الذين تأثروا مباشرة برفع الدعم، وهو الأمر الذي جعل «د. علي» يسخر من ذلك بقوله إن الناس تتحدث عن حرمان مستمر ومزمن من الموارد، والإمكانات، والخيارات، والأمن، والقدرة على التمتع بمستوى معيشي لائق، فما الذي يمكن أن تفعله (150) جنيهاً لتلك الأسر، وأضاف: ارتفاع الأسعار أثر سلباً مع ثبات الدخول النقدية على الدخول الحقيقية، وهو الأمر الذي سيطيح بكل ما للأسر من مبالغ نقدية، ومع توحش السوق وانعدام الرقابة عليه أن يتوقع أن ترتفع معاناة الناس إلى ذروتها في ظل الظروف الراهنة.
وما يعرف علمياً بالفقر المدقع هو أدنى مستوى من الدخل يحتاجه المرء أو الأسرة حتى يكون بالإمكان توفير مستوى معيشة ملائم في بلدٍ ما، وهو مستوى من الفقر يتمثّل في العجز عن توفير تكاليف المتطلبات الدنيا الضرورية من حيث المأكل والملبس والرعاية الصحية والمسكن، وبعبارة أخرى فإن الناس الذين يعيشون تحت خط فقر محدد هم أناس يمكن أن يوصفوا بأنهم يعيشون في حالة فقر مدقع، ويتوقع مراقبون أن يعيش أغلب أهل السودان خلال الفترة المقبلة فيما يسمى بالفقر المدقع.
آثار جانبية
لا يقتصر تأثير الفقر على العجز في توفير المطلوبات الأساسية ولكنه يمكن أن يمضي إلى أبعد من ذلك بأن يؤثر مباشرة اجتماعياً وسياسياً وسلوكياً، فقد أظهر بحث جديد نشر في مجلة (ساينس) العلمية أن الفقر يمكنه أن يستنزف الموارد العقلية للإنسان، وتبين تلك الدراسة التي قام بها فريق دولي من الباحثين مدى التأثير السلبي الذي يلحقه الفقر بوظائف الإدراك لدى الإنسان، حيث يترك مساحة أقل في الدماغ للمهام الأخرى، وتأتي الدلائل على ذلك من دراستين تم إجراؤهما في (الهند) و(الولايات المتحدة). حيث أظهرت بعض البيانات التي جرى جمعها في السابق أن هناك رابطاً بين الفقر وبين الخلل في اتخاذ القرارات، إلا أن الأسباب الجذرية لذلك الارتباط لم تكن واضحة، كما أنه يمكن أن يؤدي إلى اختلالات اجتماعية خطيرة تتمثل في ارتفاع معدلات الجريمة واكتناز دور الإيواء بالأطفال غير الشرعيين، وارتفاع معدلات تعاطي المخدرات في الفئات العمرية المختلفة وارتفاع معدلات العنف والجريمة.