رأي

كيف يمكن أن نأكل مما نزرع؟! (2)

كان مشروع جبال النوبة ينتج القطن قصير التيلة والذرة والدخن والفول السوداني، كان فيه أمهر الخبراء الزراعيين، وكان إنتاجه يوفر كل احتياجات السكان، والآن ما هو الوضع؟ تلاحظون أن أبناء مناطق جبال النوبة يملأون الشوارع، يعملون في المهن الهامشية وبيع السلع الصغيرة.. أما كان الأفضل إبقاءهم في المشروع وتحويلهم إلى جماعة منتجة؟!
} في أول أيام مايو رفع “نميري” شعار الانفتاح على الريف، وقال في عدة خطابات نارية إنه بدلاً من أن يأتي أهل الريف إلى الخرطوم فلتذهب الخرطوم إليهم، لكنه أهمل تحفيز الناس لإغرائهم بالإقامة مع الريف، ولم يهتم بتنظيم هذا العمل بتكوين لجان شعبية كما فعل الصينيون، ولم تخرج القوافل الحاملة لوسائل الإنتاج والتقاوي إلى الريف.. فقط اكتفى “نميري” برفع الشعار ولم يتبعه بإجراءات عملية على الأرض كما فعل الصينيون.
} التجربة السعودية أيضاً تستحق الدراسة.. لقد رعى الملك “فهد” هذه التجربة منذ أن كان أميراً، وجمع حوله الخبراء في الزراعة وهو يعرف أن المملكة ليست بلداً زراعياً ولديها مشكلة في مياه الري، لكنه ترك الأمور للخبراء وخصصت كل الاعتمادات اللازمة لاستيراد أية آلة أو جهاز.. وكنت آنذاك في المملكة أتابع هذه الجهود وأرقام الإنتاج من عام لآخر، وكيف أن الملك “فهد” رفض القمح الأمريكي الرخيص.. وأذكر أن لجنة من المزارعين الأمريكيين جاءت لإقناع “فهد” بعدم جدوى إنتاج القمح في المملكة، وأن الأفضل استيراده بأسعار أرخص، لكن الملك “فهد” قال لهم إن القمح سلعة إستراتيجية، وإن الدول المنتجة له تتحكم في العالم، ولهذا فهو يرى أن أي إنفاق في هذا الصدد لا يساوي شيئاً قياساً بعائده.. وكنت أحرص على متابعة أرقام الإنتاج عاماً بعد آخر، وخلال ثلاث سنوات اكتفت المملكة ذاتياً من قمحها الذي زرعته، وفي السنة الرابعة فاض الإنتاج عن حاجتها لدرجة أنها صدرت فائض إنتاجها من القمح إلى مصر والسودان البلدين الزراعيين لآلاف السنين.
} لقد رفعنا في أول أيام الثورة شعار (نأكل مما نزرع) وهو نفس الشعار الذي رفعته الصين أيام المجاعة.. وبالفعل بدأنا نحس أننا ننتج غداءنا ولم ننتبه إلى أن معنى زيادة إنتاج القمح أن يصبح الآخرون أيضاً من مستهلكي القمح، فأخذ مزارعو الجزيرة يقلدون أهل الشمالية في عمل (القراصة) لغذائهم، وركزنا على إنتاجه في المشاريع المروية، ولم نهتم بتطوير الوسائل، ولم نهتم بالعمق الشعبي، ولم نحفز المزارعين.. وفي مرحلة لاحقة اكتفينا بالقمح المستورد لأنه أرخص.
} كان المفترض أن يتم حصر كل المناطق التي تصلح لإنتاجه في نهر النيل والشمالية وجبل مرة، وتوجيهها لإنتاج القمح وحده وحصرها فيه مهما كانت رغبة المزارعين، تماماً كما فعلت الصين، ولا بد من تكوين لجان متابعة الإنتاج لمكافأة المنتج ومعاقبة غير المنتج، وأن يكون هناك خبراء لا يترفعون عن الإقامة في القرى يتابعون الإنتاج ولا يكتفون بكتابة التقارير.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية