استراحة الجمعة
} كان مقاتلاً في قوة دفاع السودان.. شارك في معركة (كرن).. يباهي ويفتخر بنيله وسام من القائد الإنجليزي لإجادته التصويب بدقة من المدفع (البرين).. شمله التقاعد مع آخرين.. صنع له طاقماً من الذهب الأصفر لتجميل أسنانه التي بدل السجائر لونها.. يمشي بين الناس بخطى واثقة كأنه في طابور سير عسكري.. شعره أسود كليل الخريف.. ناعم الملمس تتخلله بضع شعيرات بيضاء.. يخرج في الصباح الباكر من منزله بقرية (سوق الحاجز) الواقعة في أقصى شمال جبال النوبة.. يتوجه لمتجر الشيخ “التوم حامد” يلقي عليه التحية.. أهلاً “جبريل عبد الفضيل”.. يقطع المسافات شمالاً نحو دكان التاجر “الطالب أحمداي”.. يبتسم “جبريل” حتى تبين نواجذه، ويقول أهلي خزام وقريش أهل الرسول.. فيرد عليه الطالب بتحية أفضل منها.. (أزرق دابي الليل.. أتفضل أشرب الشاي).. يجلس “جبريل” على الأرض قانعاً بمهنته (كعتالي) في السوق يساهم في دعم الاقتصاد.. ويطعم أطفاله بمال حلال وعرق جبين وخدمة ضراع.. حينما تقف سيارة “الفاضل” ود الجزيرة محملة بالبضائع (سكر وشاي) في صناديق من الخشب وملح طعام ودقيق (فيني).. يبدأ “جبريل” في الغناء بصوت مرتفع (اليوم الحوازمة بعدكم جملة مافي تفرقة بدور بمشي بعيد تكتلني الهملة)!! ويشاركه في العتالة “خميس” و”أبكر البرنادي”.. وقبل حلول الساعة العاشرة يتوقف “جبريل” عن العمل ويتوجه لمطعم “سعد الله” لتناول كبدة وشية مخصصتان له وزملائه العتالة من الجزار “حامد النضيف”.
} في إحدى الأعياد كانت قرية (الحاجز) تبتهج وتغني لحلول عيد الفطر وتخرج “ود البشير إبراهيم” من الجامعة ودخول “غانم” وإدريس عبد السلام” كلية الطب ليصبح إضافة كبيرة للمساعدين الطبيين في القرية “سومي حسن” و”حامد الفضل”.. تقبلت الحاجة “أم مهلين” تحايا العيد من “جبريل” وقالت له (إن شاء الله يا “جبريل” ربنا يديك الفي نيتك).. فقال ضاحكاً: (أنا الفي نيتي مستحيل أن أناله).. فقال له “حسن أبو شليخ” التاجر القادم من أقصى شمال السودان: يا “جبريل” الله قادر على كل شيء..
لكن يا “حسن” أنتم الله منحكم الثروة والجاه والبيوت والزوجات، أنا أمنيتي أن تشاهدني بنات (دار شنقلو) و(مسبعات) و(كنانة) و(بني حسن) أنزل من طائرة بيضاء.. ويسأل الشيخ “حسن القناوي” أخاه “هشابة”: الطائرة النزلت في الحلة شنو؟! ويقول له الطائرة سائقها “جبريل عبد الفضيل”!! يضحك كل من كان جلساً في راكوبة “التوم حامد”!!
} ويروي “محمد عمر” المشهور بـ(مدردم) قصة النمر الذي هجم على بنات كنانة في مورد الماء في قديم الزمان، وكيف تصدى للنمر “الغائب حسن” بالحربة والسكين فقتله وتغنت بشجاعة الغائب الكنانيات والحازميات من (الأبيض) حتى (تلودي).
} مات “جبريل عبد الفضيل” قبل سنوات وترك سيرة عطرة لرجل بسيط شفيف عاش فقيراً معدماً، ولكنه فقر بعزة وكبرياء وشرف.. لا يسأل الناس ولا تمتد يده المعروقة لحقوق الآخرين.. أحسن تربية أولاده.. كان فخوراً بابنته الطبيبة والتي دعته يوماً لزيارتها في الخرطوم وطافت به سوق الخرطوم، وعندما شاهد عدداً من (العتالة) يحملون البضائع على ظهورهم طلب من ابنته أن تتوقف بسيارتها لأنه تذكر سوق (الحاجز).. فسقطت دمعة من خده وعاد في اليوم التالي بقطار الغرب ليستقبله “حسن المصري” و(قذنب) و(سليطين) ويعود لقريته الواعدة.. مات “التوم حامد” وأصبح “حامد النظيف” لا يمكن الوصول إليه واختفى المعتوه “الميدوبي” عن القرية.. ولكن ظل “جبريل عبد الفضيل” رغم بساطة مهنته رجلاً في ذاكرة العامة لما كان يفعل من الخير ويجمِّل مجالس القرى بالقصص والحكايات ومآثر الجندية وانضباط الإنجليز وشجاعة أورطة السودانيين في معركة (كرن)!
} ألا رحم الله “جبريل” وحفظ “حاجز القناوي” من شر حاسدٍ إذا حسد.