جاءوا ليكحلوها .. فعموها..!!
تظاهرات منتصف الأسبوع الماضي من بعض الجهات والكيانات التي لم تعلن عن هويتها غير أنها في الظاهر معارضة لسياسة رفع الدعم الحكومي الأخير، أكدت عمليات الإحصاء والجمع والطرح ورصد العملية على أنها خسرت الشارع السوداني ولم تكسبه، بل ذهب البعض إلى أن (هؤلاء) جاءوا ليكحلوها فعموها..!
وأسباب ذلك ودواعيه كثيرة، فالشعب السوداني وهو رائد التغيير والربيع العربي في البلاد العربية – إن جاز التعبير- لم يدرج على ذلك الشيء الذي كان بالخصم على المواطن السوداني والوطن إجمالاً..
فلنبدأ بإغلاق شوارع المرور العامة بالحرائق والحواجز ورمي (القمامات) والحجارة عليها.. صار من قدر أصحاب السيارات الخاصة والعامة – وقد كنت منهم تلك الليلة – أن يقصفوا بالحجارة ومن بعد يغوصون في أزقة الأحياء المختلفة ليحاولوا الوصول إلى حيث يريدون، وفي ذلكم اعتداء على (حق عام) لم يحدث مثله في البلاد الأخرى التي شهدت نشاطاً من هذا النوع، ولم يعرفه وطننا السودان بطبيعة الحال.. فذلك السلوك (همجي) وعشوائي كما قال بذلك الكثيرون كتابة ولفظاً وتصريحاً، وذلك بغض النظر عن الخطأ والصواب في سياسة رفع الدعم عن المحروقات.. وحق المواطن في التعبير بالتي هي أحسن وأقوم.
إن عملية إغلاق الطرق أمام المارة بالوسائل إياها من الكبائر.. ولكن هنالك في ما حدث أمام أعين الناس وغياب الأمن ما هو أكبر، ونعني بذلك وهو كثير:
– حرق عدد تجاوز العشرات من محطات الوقود والبنزين.
– وكذلك فروع المصارف والصرافات والصيدليات، ومكاتب الخدمات الكهربية والمحال التجارية الخاصة وغيرها مما أفقد الكثيرين رؤوس أموالهم وممتلكاتهم.
– ثم كان حرق البصات والعربات الخاصة وبعض وسائل النقل.
– ولا ننسى أن نذكر هنا الاعتداء على منزل رمز وطني سياسي ومهني واجتماعي كبير.
وقد كان لذلكم كله أثره المباشر على الخدمات والمعنويات، ذلك أن النقص الهائل والكبير في محطات الوقود قد أعاد الصفوف أمام الطلمبات والمخابز إلى ما كان عليه الحال في الحقبة النميرية والديمقراطية الثالثة، فقد كانت تلك الأيام يومها أيام شدة وسخط على الأنظمة الحاكمة وضيق بالحال قليل الخدمات المعيشية والتي لابد منها.
ويبدو أن من كانوا وراء تلك التظاهرات بالرأي أو المشاركة والدفع لم يكن ليعجبهم التطور والارتقاء الذي حدث في مجال الخدمات والطرق الآن، فأرادوا أن يعيدوا شعار (محو آثار مايو) بعد الانتفاضة إلى محو آثار الإنقاذ وقبل أن تنتهي.. متخذين من قرار رفع الدعم وسيلة لذلك.
لقد تطور القطاع المصرفي السوداني في العقد الأخير بشكل كبير، حيث صارت له امتداداته وخدماته الاقتصادية والإلكترونية مع تطور الاتصالات والتقنية، فأضاف ذلك للعميل أو طالب الخدمة جديداً.. لم يعجب المتظاهرين ومن ظاهروهم من (الحرامية)، وكان الاتجاه إلى كسر وحرق عدد من أفرع المصارف وأماكن صرفها الآلية الـ ATM للنيل منها ومن ممتلكاتها وما بها من مال وغير ذلك.
وكذلك الحال بالنسبة للصيدليات والسوبر ماركت التي انتشرت في الفترة الأخيرة إشباعاً لحاجة المواطن وتطلعاته، رغم ارتفاع الأسعار في الدواء والسلع الأخرى، فكانت هذه أيضاً هدفاً من أهداف المتظاهرين ومن ظاهروهم واستغلوا موجة التخريب وركبوا عليها.
وهنا أيضاً كان المواطن في السابق يبحث عن السلع اللازمة والأدوية في الخارج، وقد صار الكثير منها متاحاً في الداخل، بما في ذلك – كما قال السيد الرئيس في مؤتمره الصحفي الأحد الماضي – (السلع الاستفزازية) وهي كثيرة كما نرى ونشاهد وربما نتعاطى..!
إننا نعلم أن ما فشلت فيه الأنظمة السابقة ويتمتع به الآخرون الآن أغنياء أو فقراء، ينال من دعاة التظاهر نفسياً ومعنوياً وعملياً، فهم يريدون في حراكهم غير السوي هذا أن ينالوا من الذي تيسر من الخدمات.. ومنها خدمات المواصلات (الخاصة والعامة)، وإن لم تكن بالقدر المطلوب والمرغوب. وإلا فلماذا كان حرق بصات الوالي والأخرى بالتزامن والترافق مع طلمبات البنزين.. وقبل ذلك مع إغلاق الشوارع بالحرائق والحجارة وجزوع الأشجار وأكوام الزبالة.. وصولاً إلى آليات المرور الحديثة والراقية؟!
وفي ذلك كله – كما قلنا – تعدٍ على المواطن وحقوقه وممتلكاته، ولم يكن ليغني عن وصول الأمن إلى المتظاهرين ثم فتح الطرق للمرور واستئناف ما بقي من محطات الوقود لنشاطه بكفاءة عالية وإمداد مستمر من قطاع النفط الذي قال منسوبه إن إعادة تأهيل الطلمبات المحروقة والمتأثرة بالنشاط غير المسؤول يجري الآن، وقريباً ما تستأنف نشاطها.. ولعل هذا ما حدث.
ويظل بعد هذا وربما غيره ما لم نذكر، وهو البحث والتدقيق في ما جرى في العاصمة الخرطوم ومدينة ود مدني في الأسبوع الماضي. إذ لا نغالط أو نشك في أن الأحوال استقرت بعد بسط السيطرة يوم الجمعة الماضي، والسماح للمتظاهرين والمعبرين عن رأيهم بسلام لأن يتظاهروا ولكن بمسؤولية واحترام لحقوق الغير.
وذلك ما لن يكون الجواب عليه بعيداً عن استكمال التحقيق في ما جرى لعدد كبير من القتلى على الطرفين – رسميين ومتظاهرين وغيرهما – بل وعن الفكرة الشاذة نفسها من أين جاءت ومن كان يقف خلفها؟ إنها تشبه نشاط الجبهة الثورية بقيادة “الحلو” في (الله كريم) و(أبو كرشولا) و(أم روابة)، ولكن الجواب الشافي والقاطع مطلوب، لا سيما وأن الأمر سيذهب – من بعد – بمن ألقي القبض عليهم إلى القضاء.
هذا وإن كان للجمهور والرأي العام والمحللين السياسيين وكُتاب الرأي، كما جاء أثناء ذلك وبعده، ما يشير إلى أن الحدث بتفاصيله وما صاحبه غير مشهود أو معروف في تاريخ البلاد وحراكها السياسي في المناطق غير المعروفة بالتمرد وحملة السلاح ونتاج التدخل الخارجي.. إلا أن التعبير عن الرأي ومؤاخذة الحاكم على حكمه أمر متاح ومعروف، ولكن له سبله وطرائقه القانونية والمجتمعية.. وآخرون في مواقع إعلامية وسياسية ذهبوا إلى غير ذلك، وهذا أمر مألوف ومعروف.. غير أن الشعب آخر النهار هو الحكم.
إن قرار رفع الدعم الرسمي كما قال بعض المسؤولين وقلنا في المرة السابقة – أي في المشهد السياسي (لقاء الصراحة والمكاشفة) – علاج لا بد أن يتناوله المريض رغم مرارته، وما يصاحبه من آثار جانبية واعتراضية لا يبدو أنها كانت غائبة عن من وضع تلك الوصفة العلاجية ومنح الدواء بموجبها.
وهناك خطوات مصاحبة بدأ الحديث عن إنفاذها مؤخراً، بغرض تخفيف أثر رفع الدعم عن المواطن الفقير أو متوسط الحال من أصحاب الأجور والدخول.. وهو هم قديم في أجندة الحكم، ولكن قرار رفع الدعم الأخير عن الوقود ومطلوباته يدفع به إلى أعلى حتى يتم تلافي الصعوبات.. والوصول بعائد رفع الدعم إلى حيث ما هو مطلوب في استقرار الاقتصاد وتجنيبه مهاوي الانزلاق.
موضوع رفع الدعم عن المحروقات كما هو معلوم، طرح قبل مدة ودار الجدل والحوار حوله داخل الحكومة (العريضة) ومكوناتها السياسية وخارجها، وانتهى الأمر إلى القبول والرضا، وإن كانت أحزابنا السياسية ليست على رأي رجل واحد، وبشكل خاص تلك المعارضة التي لا يهمها إلا ما يعينها على تحقيق برامجها وشعاراتها السياسية.
والسؤال الآن وبعد تظاهرات الأسبوع الماضي وما صاحبها، ما هو حجم ربح وخسارة أحزاب المعارضة إن كان في الأمر أي من الاثنين؟ والجواب متروك للأحزاب صاحبة الشأن نفسها، غير أننا نلقي بسهمنا وعلى عجل..!
التظاهرات وقد كانت الأعنف والأكثر ضرراً بالأرواح والممتلكات العامة والخاصة، جعلت الأجهزة الأمنية في الرد عليها شيئاً ما لسبب في نفس يعقوب.. ولكنها في النهاية أحاطت بها في مستوييها التخريبي والسلمي.. ومؤدى ذلك أن (إسقاط النظام) وهو شعار مرفوع من كل القوى المعارضة (سلماً أو عنفاً)، لا يبدو ممكناً في الوقت الراهن وبغير صندوق الانتخابات، لا سيما وأن ما يعين على استقرار الاقتصاد بعد ترتيبات المنافع بين دولتي السودان وجنوب السودان قد بدأ بالفعل، وعليه من جاءوا ليكحلوها عموها..!