تقارير

انفراط الأسعار بعد القرارات الاقتصادية .. مشاهد أولية للأزمة

الحوار الجدلي الجديد القديم بين المواطنين والطلاب من جهة و(الكمساري) من الجهة الثانية، ويتحمل فيه الأخير كثيراً من اللعنات والعبارات الساخطة كان على قمته في إحدى حافلات خط الجريف غرب «الشيطة»، الذي زادت فيه تعرفة ركوب الشخص الواحد من (80) قرشاً إلى (120) قرشاً، وجذب الحوار كثيراً من أنظار الركاب الذين انقسموا ما بين مؤيد لثورة أحد الركاب وآخرين رفضوا تحميل (الكمساري) المسكين تبعات السياسة الاقتصادية الأخطر ربما خلال السنوات الأخيرة التي قضت برفع الدعم عن المحروقات، ومن ثم بان أثرها ظهر سريعاً حتى قبل أن يتهيأ الناس إلى (ترتيق) ميزانياتهم لتتوافق مع تلك المستجدات الاقتصادية.. (الكمساري) لاذ سريعاً بوريقة مهترئة صادرة عن هيئة النقل والمواصلات بولاية الخرطوم ودفع بها بوجه عابس إلى المواطن، الذي كان يطلق وقتها عبارات الاستهجان، وهو يتأفف حيناً بجبين مقطب ويظهر تبرماً واضحاً في أحيان أخرى، ومرر بصره سريعاً على تلك الوريقة التي تحتوي على قائمة بأسعار تعرفة المواصلات الجديدة، ثم نفض يديه سريعاً وأشاح بيديه في حركة احتجاجية لافتة، ثم لاذ بصمت مطبق بعد أن أفرغ غضبه بهمهمات متقطعة.
مشهد أول
كان الحال في موقف «شروني» الذي صبت عليه كثير من اللعنات بعد تدشينه قبل شهور قليلة لعدم احتوائه على مرافق مهمة مثل المياه ودورات المياه والمظلات التي تقي الناس شرور الحر، بالإضافة إلى بعده عن وسط الخرطوم، كان الحال بعد يومين فقط من سريان تنفيذ قرار رفع الدعم عن المحروقات يغني عن السؤال، فقد بدا لافتاً أن القرار قد جعل حالة من الذهول والإرباك تمسك بمفاصل كل الناس، وبدا أنهم يترقبون تحوراً كبيراً يطال أسعار معظم السلع الأساسية والضرورية، بل وحتى الهامشية منها، ولكن أظن أن أغلب الموجودين في ذلك بالموقف قد أرجأوا التفكير في كل ذلك، وأضحى الآن همهم الأساسي هو كيفية الحصول على مقعد في (حافلة) أو (هايس) أو حتى عربة تقله إلى منزله حتى تقيه من لسعات الشمس التي صوبت اشعتها الحارقة على تلك الأبدان المتعبة.
كان المشهد في موقف «شروني» في حوالي الساعة الرابعة والنصف عصراً أشبه بثكنة واسعة ضمت في بطنها كل تكوينات الشعب من شباب وشيوخ ونساء ورجال وأطفال وطلبة جامعيين وموظفين وعمال و(ناس هايمة ساي)، كان ثمة نسوة تراصصن في شكل صفوف طويلة أمام إحدى الإشارات، فيما انسحب الرجال رويدا رويدا إلى أماكن الشمس لإفساح المجال لأولئك النسوة ليحظين ببعض الظل، اختلفت سحنات (المترقبين للحافلات) وتباينت ألوانهم وأعمارهم إلا أن جميعهم اتفقوا على حلم الحصول على مقعد في حافلة، ولكن يبدو أن الأمر كان أصعب مما يدور بخلدهم فقد كان الموقف يعاني شحاً بائناً في المركبات العامة، ولم يكن للنساء أو الشيوخ أو الأطفال كثير حظ في بعض الحافلات التي تقتحم الموقف بسرعة شديدة ولكن من يحظى بمقاعدها هم مفتولو العضلات وذوو اللياقة البدنية العالية الذين لا يتوانون في إقصاء النساء أو ذوي البنى الهزيلة، ولهذا فإن كثيراً من النساء مكثن في الموقف لساعات طوال.
أزمة طاحنة
السيدة «مودة حسين» التي تعمل موظفة في مصلحة حكومية قالت لـ(المجهر) إنها ظلت في الموقف لأكثر من ساعة ونصف على أمل الحصول على مقعد، ولكن خاب مسعاها ولا يوجد حتى مجرد ما يلوح في الأفق أن ثمة حافلة قادمة، مشيرة إلى أن عدداً من أصحاب الحافلات رفضوا تعبئة سياراتهم من البنزين بعد الزيادات الجديدة، وهو الأمر الذي تسبب في حالة الاحتقان، وغير بعيد منها كان يقف «سليمان أحمد» الذي أزال بإبهامه عرقاً كثيفاً تجمع على وجهه، وأنشأ في القول: (ياخي أنا لى ساعتين واقف هنا وما عارف والله الموضوع ده ح يودينا لي وين؟…أنا ماشي بحري ولو اتوكلت على الله ومشيت كداري كنت وصلت م قبيل).
«حسن هاشم» الذي يعمل في خط الجريف استطاعت (المجهر) أن تتحدث له عن الزيادات الأخيرة وعن تلكؤ أصحاب الحافلات والانتهازية التي يتعاملون بها وقت الأزمات، ولكن يبدو أن طريقة حديثي لم تعجبه، فعاجلني بابتسامة صفراء أقرب إلى السخرية من حديثي، ورد قائلاً: (يا أخوي الشغلانية بقت ما بتخارج معانا لأنو المشوار حتى بعد الزيادات الجديدة بقى ما بغطي معانا لأنو صاحب الحافلة عايز حقو. والكمساري عايز حقو… والكمسنجي عايز حقو.. بالإضافة إلى الزيوت وقطع الغيار..و.. و… وغيرها من المنصرفات اليومية والدورية للحافلة..وعشان كده الناس ماعارفة حاجة وبيتكلموا ساكت).
الفواكه تتمنع…
تفاصيل الأزمة التي أحدثها ارتفاع أسعار المحروقات لم تتوقف عند تلكؤ أصحاب المركبات العامة وليست في حجم الرفض الشعي الواسع لها كونها تمثل أعباءً إضافية على ميزانياتهم التي تعاني الأمرين، ففي موقف الإستاد بدا الأمر متأزماً هو الآخر بعد أن ازداد اسعار المواد الغذائية والفواكه بشكل متسارع وجنوني وغير متوقع، فارتفعت أسعار دستة البرتقال إلى (18) جنيهاً وارتفع سعر كيلو الموز إلى خمسة جنيهات بدلا عن ثلاثة..كما شهدت كثير من السلع الأساسية ارتفاعات مماثلة، وتصاعدت بشكل متتابع دون أن تجد من يكبح جماح تفلتها أو من يقلل من تفاقمها، ولأن المحروقات تعبر من السلع الإستراتيجية التي تتأثر بها كل السلع الأخرى، فقد أسهب «عبد الفتاح محمود» الذي كان يكوم حزمة من المواد الغذائية أمامه في موقف الإستاد في تعداد الأسباب التي دعته إلى مضاعفة السعر قائلاً إنه درج كل صباح على شراء مواده من السوق المركزي بالخرطوم والقدوم بها إلى موقف الإستاد، ولكنه هذا الصباح تفاجأ بزيادات لم يكن يتوقعها كما أن صاحب العربة الأمجاد الذي كان يقوم توصيله قد رفع هو الآخر أجرته تماشياً مع الزيادات العامة في الأسعار.
أستاذ الاقتصاد «شاهين الأمين» أبلغ (المجهر) أن ارتفاع الأسعار بهذه الوتيرة المتسارع يعتبر من الآثار الطبيعية لعملية رفع الدعم عن المحروقات، وحذر «شاهين» من أن هذا الارتفاع سوف تصحبه ارتفاعات أخرى لأن الدائرة الخبيثة سوف تطال كل سوق العمل والإنتاج، وأن آثارها سوف تظهر بشكل متتابع، لافتاً إلى أنه يتعين على الدولة أن تستخدم بعض المكابح لفرملة إنفراط السوق، وأضاف: (رغم المساحة الضيقة المتاحة للحكومة التدخل لإعادة الصواب وبعض الاستقرار الى السوق المتفلت بسبب انتهاجها سياسة السوق الحر أنه لا يمكنها أن تقف متفرجة إزاء ما حدث وما سوف يحدث من استغلال بعض ذوي النفوس الضعيفة لحالة رفع الدعم عن المحروقات وانفراد كل واحد فيهم وضع الأسعار التي تناسبه وتتيح له الاستفادة بأكبر قدر من الزمة الاقتصادية الحالية).
وأوضح «شاهين» أن على السلطات الاقتصادية أن تكثف رقابتها على السلع الضرورية والأدوية حتى لا تتفاجأ ذات يوم أن المواطنين لا يستطيعون حتى شراء قطعة خبز واحدة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية