المشهد السياسي

وعلى المعتدي والباغي ترتدّ السهام

وضْع الإدارة الأمريكية لا تحسد عليه، بل يذهب البعض إلى القول (وعلى الباغي ترتد السهام)..! فقد بقيت الولايات المتحدة الأمريكية ترسل سهامها في كل الاتجاهات وكل الأوقات، وهي القطب الأوحد بعد انهيار القطبية الثنائية وفقدانها زخمها القديم. على أن من ينظر إلى ما يجري الآن يجد أن الحال قد اعتراه الكثير من الاختلافات والتحديات التي من أكبرها ما يجري الآن حول الأزمة السورية وسلاحها الكيماوي وجرائمها اللا إنسانية ضد شعبها، وقد وعد الرئيس الأمريكي “أوباما” شعبه والمجتمع الدولي والمعارضة السورية بأنه سينهي ذلك بالضربة القاضية التي تجرد سوريا من مخزونها الكيماوي ومن السلطة الحاكمة فيها.
ولكن الأمر الذي أحاله الرئيس “أوباما” إلى مجلس الشيوخ الأمريكي داخلياً لم يجد نصرة إلى اليوم بسبب التجارب السابقة، ولم يجد الدعم المطلوب خارجياً كما حدث في غزو العراق، بل صارت له خارجياً أيضاً ممانعة ورفض صريح من القطب الروسي، وحليفة سوريا المعروفة وهي الجمهورية الإسلامية في إيران، إلى جانب جمهورية الصين التي لها ميلها للحل السياسي ورفضها للضربات العسكرية.
إن السهام التي كان ينوي السيد “أوباما” توجيهها إلى دمشق وسلاحها الكيماوي ترتد اليوم، سياسياً ودبلوماسياً وأدبياً، على صاحبها، فهو في حيرة من الجدل، والغدو والرواح مع جمهورية روسيا.. التي لم تؤدِّ إلى نتيجة حتى الآن ولا يتوقع لها ذلك. وروسيا لها وضعها كأحد الخمسة الكبار في مجلس الأمن الدولي.. ولعل ذلك ما جعله يبحث عن تهدئة للأوضاع وفتح طريق مع الرئيس الإيراني “روحاني” الذي وعد باللقاء به على هامش الجمعية العامة رقم (68) للأمم المتحدة. وذلك رغم مجاهرة الدولة العبرية – إسرائيل – برفض الفكرة، وهي التي تعتقد أن إيران عدوها الأول الذي يلعب على الوقت في تطوير إنتاجه النووي الذي لا تعلم حقيقته؟ الآن.. الإدارة الأمريكية الحالية تبحث لها عن مخرج.. ولكن كيف ذلك والسهام المرتدة كثيرة..؟
في المشهد السياسي، السابق قلنا إن الإدارات الأمريكية المختلفة تلعب في السياسة على مصالحها وفرصها.. وذلك صحيح.. إلا أنه من قال إن ذلك صحيح في كل الأحوال..؟!
الأسبوع الماضي، وإلى اليوم، كثر الجدل وفاض حول طلب الحكومة السودانية تأشيرة الدخول للرئيس إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث المقر الرسمي التاريخي للأمم المتحدة، ومنذ إنشائها، فالدورة العمومية رقم (68) للمنظمة تنعقد هذه الأيام والسودان أحد الدول الـ (197) التي تشكل عضوية المنظمة، وانتمى إليها منذ استقلاله في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، أي منذ ستين عاماً تقريباً. فحضور رئيس جمهورية السودان الدورة ومخاطبتها والمشاركة في مناشطها المصاحبة لا يمكن حرمانه منه.. وإن كنا نعلم أن ما بين الدولة المضيفة ودولة السودان، سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، ما فعل الحداد بالفأس.. ومنذ زمن بعيد!
وربما أقسى ذلك وأعنفه أن الإدارة الأمريكية السابقة مشت على طريقها الإدارة الأخيرة وهي التي ألقت بالرئيس السوداني “عمر البشير” بين يدي المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام الأول “أوكامبو” عبر ادعاءات نسجها وبصم عليها خصوم سودانيون سياسيون ومتمردون، وكانت خلف الملف الإدارة الأمريكية بكل صراحة ووضوح. علماً بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست من بين الدول التي وقعت على ميثاق روما الذي بموجبه تأسست المحكمة الجنائية، بل زادت على ذلك أنها وقعت اتفاقيات ثنائية بينها وبين عدد من الدول الموقعة على الميثاق لعدم تعريض جنودها ومواطنيها ومسؤوليها للوقوع تحت طائلة قوانين الجنائية الدولية!
لقد تقدمت حكومة جمهورية السودان بطلب للسفارة الأمريكية بالخرطوم لمنح الرئيس “البشير” ووفده المرافق تأشيرة دخول لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة حالياً بدولة المقر وعاصمتها التجارية نيويورك، وذلك ما وضع الإدارة الأمريكية في مأزق، مما جعلها تتلكأ وتلعب على الزمن والإجراءات في منح السيد الرئيس ووفده التأشيرة، الشيء الذي حدث بعد ذلك و”البشير” يصر على مخاطبة الدولة (68) والذهاب إلى نيويورك رغم التحديات والصعوبة.
الأمم المتحدة حددت يوم الخميس القادم موعداً لمخاطبة الرئيس السوداني للجمعية العامة، وذلك حدث كبير ومحرج للغاية لإدارة الرئيس “أوباما” ومستشاريه واللوبيات المعادية للنظام الحاكم في السودان، فالسهام – كما قلنا – ترتد على صاحبها.
والإدارة الأمريكية ورغم كل شي لم يكن أمامها غير أن تفعل ذلك – أي تمنح الرئيس “البشير” ووفده الإذن بالدخول وحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة – فالذي (فيها.. مكفيها) وزيادة.. كما يقولون.. ذلك أنها ليست في وضع يجعلها تغامر بحرمان دولة عضو من نشاط أممي في دولة المقر.. وإن أعطى ذلك الرئيس “البشير” من الميزات الكثير فهو:
– سيخاطب الجمعية بما يريد ويشتهي ويطلب.
– دعم الحضور من أعضائها وهم كثر.
– وسيحضر النشاط الأفريقي المصاحب للإدارة.
– وينعم بمقابلة ومطارحة آخرين كثر.
وفي ذلك كله ما يعتبر خصماً على السياسة الأمريكية المعادية للسودان وانتصاراً للرئيس السوداني “البشير” الذي لعبت الإدارة الأمريكية مع آخرين على عزله وتحميله ما لم يكن مسؤولاً عنه، حسب ادعاءات مدعي الجنائية الدولية “أوكامبو” والسيدة التي خلفته. فالجنائية الدولية الآن في (خبر كان..) رغم أنها طلبت من الولايات المتحدة تسليمها الرئيس السوداني.. وهو الطلب الذي – إذا صدق – لا يبدو أنه يقدر أو يفهم مسؤولية الإدارة الأمريكية في الوفاء بالتزامات دولة المقر تجاه المنظمة الدولية وأنشطتها الرسمية والمحضورة من كل الدول الأعضاء (رؤساء أو ممثلين).
لقد اغتنم السودان الفرصة ولعب عليها ليستثمرها ويكسب منها ويعطي إشارة للآخرين على أنه قادر على لعب أدوار أكبر من دوره كدولة في عالم ثالث – كما يقولون.
درج رئيس وزراء الهند الأسبق “جواهر لال نهرو” على ألا يثق كثيراً بالأمم المتحدة وأنشطتها ومؤسساتها، بما فيها الجمعيات العمومية، قائلاً إنها (منتدى يلعب فيه الأعضاء بالكلام عوضاً عن اللعب بالورق..!) وفي ذلك إشارة إلى أن الخمسة الكبار أو (الخمسة + 1) الآن هم الذين يسيطرون على كل شيء بحصولهم على حق النقوص الـ (فيتو).
ولعل ذلك ما كان يذهب إليه آخرون من أمثال رئيس وزراء ماليزيا السابق “مهاتير محمد” والرئيس الإيراني السابق “أحمدي نجاد” وذلك كله صحيح. ولكن في الأمر متغير لا بد من وضعه في الحساب، وهو اختلاف المصالح والمنافع بين الكبار.. وظهور جماعات مصالح وعدم رضا في العالم الثالث بشكل عام. فالجنائية الدولية الآن يبدو أنها في حالة موات، وهناك (ملحمة) أفريقية واسعة تجاهها، وهي ذات الأهداف السياسية التي أكثر منها قانونية أو جزئية.. والتي تصوب سهامها بالكامل صوب الضعفاء ولا توجهها نحو الأقوياء، كالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وغيرهما من الجماعات المتمردة السودانية التي وقفت خلف ملف الرئيس السوداني “البشير” في الجنائية الدولية، وهي التي قامت بما قامت به من جرائم إبادة وضد الإنسانية في بلدها السودان.. والإحالة هنا إلى ما يسمى (الجبهة الثورية) والجماعة التي دخلت قبل مدة (الله كريم) و(أبو كرشولا) في جنوب كردفان، وأم روابة في شمال كردفان.. وحدث فيها ما حدث من فظائع وإبادات للأطفال والنساء والكبار، ولم يحرك ذلك كله ساكناً عند من يدعون الدفاع عن حقوق الإنسان.
ارتدت السهام الآن وبمعنى الكلمة – كما أوردنا عنواناً لهذا (الشهد السياسي) – على البغاة والمعتدين الذين ظلوا يرمون بها على غيرهم خدمة لأغراضهم ومصالحهم ومنافعهم. والمعني في كله الأحوال هو الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي لم تجد في بلادنا من يصارعها و(يلاويها) كما تفعل بلادنا الآن.. وأكبر دليل وشاهد على ذلك هو إصرار الرئيس “البشير” على مخاطبة الدورة الأممية (68) في نيويورك، وعلى مسمع ومرأى وبمشاركة من القطب الأمريكي، بل وبرعاية منه حسب الميثاق الذي أصبحت به الولايات المتحدة مقراً للأمم المتحدة ومؤسساتها الاقتصادية.
لقد سبق للرئيس “البشير” – ورغم ادعاءات “أوكامبو” وطلبه القبض عليه – أن زار عدداً من الدول العربية والأفريقية الإسلامية دون أن يحقق لـ “أكامبو” ومحكمته الجنائية ما أراد. واليوم – ولا ندري بعد ما يشتمل عليه خطاب السيد الرئيس أمام الجمعية العامة يوم الخميس القادم – نعتقد أن في مجرد الحضور ومخاطبة الحاضرين أثر إعلامي وسياسي كبير.. بل ودبلوماسي بالضرورة.
فإلى أي مدى تتبدل الأحوال وتتغير بعد ذلك؟! هذا ما ستجيب عنه الأيام ورغم كل شيء.. وبخاصة ما قال “جواهر لال نهرو” عن الجمعية العامة إجمالاً وسبق أن ذكرناه.. فهي برأيه.. منتدى يلعب فيه الأعضاء بالكلام عوضاً عن الورق!! والله المستعان..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية