رأي

المثقفون والسلطة في مصر والسودان (1)

العلاقة بين المثقفين والسلطة في مصر والسودان مرت بمراحل متعددة، ويُلاحَظ أن المثقفين في السودان تميزوا بوعي جعلهم أكثر شجاعة في مواجهة الحكومات العسكرية، لكنهم تأثروا في ذلك بالتطورات في مصر واستفادوا من دروس التجربة المصرية.
بدأ تاريخ الحكم الشمولي في الدولتين عام 1952م، بتسلم “جمال عبد الناصر” السلطة في مصر، ولأنه جاء عقب نظام ملكي فاسد، لذا حظي بتأييد غالبية المثقفين في الدولتين، ولعبت المبادئ التي أعلنها “جمال عبد الناصر” دوراً كبيراً في جذب قطاع كبير من المثقفين في الدولتين ناحية السلطة، ولم يبد المثقفون حرصاً في تأييد نظام عسكري، رغم أن المثقفين عادة ينفرون من النظم الشمولية لأن الأجواء في تلك المرحلة كانت كلها تشجع على تبني نظام شمولي متأثر بالأنظمة التي انتشرت في تلك المرحلة مثل نظام “ستالين” في روسيا، الذي عني – عبر خطط الخمسية الثلاث – بتحويل روسيا من بلد اقتصاد بدائي إلى دولة متعددة صناعياً وزراعياً؛ ولهذا تفاءل المثقفون في مصر والسودان بالنظام العسكري في مصر، وكان من الطبيعي سير السودانيين في موكب تأييد النظام العسكري في مصر، بل تمنوا أن يؤدي التأييد إلى ظهور نظام مماثل.. ورغم أن المثقفين في السودان فوجئوا بانقلاب “عبود” في السودان، إلا أن معظمهم لم يتحمسوا له لأن زعيم الانقلاب لم يكن بنفس الكاريزما التي لـ”جمال عبد الناصر” ولم يعلن عن مبادئ تفيد خروجه عن المسار الذي وضعته الدول الاستعمارية للدول النامية.. ورغم قيامه ببعض الأنشطة التنموية، إلا أن المثقفين السودانيين تطلعوا إلى نظام يشابه نظام “عبد الناصر”. واستمر النظام العسكري في السودان في عزلة عن المثقفين، بل إن القوى اليسارية جاهرت بمعاداته لأنهم كانوا يرونه مشابهاً للنظام الذي قضى عليه، ووجد نظام “عبود” تأييداً من القطاع الآخر من القوى التقليدية ولم يرفع شعارات تشابه تلك التي طرحها “عبد الناصر” ولم يهتم بتنفيذ مشاريع تنموية تفيد رغبته في الخروج عن المسار الذي حددته القوى الاستعمارية لدول العالم الثالث.. ولهذا انتهز الجميع ذلك الخطأ الذي ارتكبه النظام عندما حاول فض ندوة جامعة الخرطوم فخرجوا كلهم إلى الشارع مطالبين بنهايته وعادت الأحزاب إلى السلطة، بينما استمر النظام المصري محافظاً على وضعه، بل تعززت مكانته بمشاريع إستراتيجية مثل السد العالي.
وإعجاب الناس في السودان بنظام “عبد الناصر” كان هو الذي دفع النظام العسكري الثاني أن يحاول تقليد النظام المصري، وجاء نظام “نميري” منذ اليوم الأول معلناً عن هويته الاشتراكية، فاجتذب قطاعاً كبيراً من المثقفين الذين رأوا صورة طبق الأصل من نظام مصر، ورسخ هذا الاعتقاد سلسلة القوانين الاشتراكية التي أصدرها نظام “نميري”، فتم تأميم العديد من المؤسسات العامة وسط حماس وتصفيق المثقفين في السودان الذين بهرتهم التجربة الاشتراكية في روسيا، واقتنع المثقفون في السودان بأن هذا النظام سيعيد لهم تجربة “عبد الناصر” الثورية المتأثرة بالتجربة الاشتراكية وصبروا عليه على أساس أنه ثمن لا بد من دفعه من حرية القرار والتنظيم، وفي هذا الوقت مضى النظام المصري فخوراً بإنجازاته التنموية، لقد كان التحول إلى المسار الاشتراكي انتصاراً حرص المثقفون في مصر والسودان للحفاظ عليه وقاوموا أي محاولة لتغيير النظام رغم الأخطاء الكثيرة، وقفز الوصوليين إلى مفاصل النظام. وكان نتيجة بقاء النظام في مصر دون تغيير أن ثبت النظام أقدامه وأصبح الخروج عليه أقرب إلى الاستحالة وحتى اليوم ما زال العسكر في مصر يتمتعون بمكانة يصعب زحزحتهم عنها، وهذا يلاحظ من موقف ممن العسكر الذي اعتبر نظاماً مقدساً أنقذهم من الملكية وألغى الطبقات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية