رأي

الدعاية السوداء في العالم العربي

} لاحظ كل من يشاهدون قناة الجزيرة أن الإرسال يتعرض لتشويش مستمر. وتستخدم في هذا التشويش تكنولوجيا حديثة استطاعت أن تتجاوز كل العقبات وتؤثر في الإرسال، واحتار الناس في هذا الذي يخشى وصول الحقيقة إلى الناس. البعض أشار إلى بعض دول الخليج الغنية وأكدوا أنها من يقوم بالتشويش، لأنها لا تريد وصول الحقيقة العارية إلى شعوبها. وآخرون أشاروا إلى مصر على أساس أن القناة تقول الحقيقة دائماً، والنظام في مصر لا يريد الحقيقة خاصة في هذه الأيام المضطربة. والبعض أكد أن الأمريكان بما لديهم من تقنيات هم الفاعلون. أبدأ باستبعاد الأمريكان لأنهم لا يخشون وصول الحقيقة إلى الشعب، أو هكذا يريدون أن يكون الانطباع عنهم، ولديهم أمثلة ونماذج، مشيرين إلى قوة الإعلام الأمريكي.
} في البداية لا بد لنا من الإقرار أن من يقوم بهذا التشويش – نظاماً أو رئيساً – لا يريد وصول الحقيقة إلى شعبه، وأن هذا النظام في مأزق، لهذا اختار أسهل الحلول وأن لديه مالاً كثيراً ولا يهمه الإنفاق مهما عظم، وأن لديه مشكلة مع الحقيقة، وأن شعبه ساذج وبسيط، وهو يريد تركه على جهالته. ويبدو أن القناة استسلمت لقدرها فلم تشكُ إلى الجهات المختصة، ولم تطالب بحقها في بث أي مادة. ويحتار المرء عندما يشاهد قنوات الرقص شبه العاري، وكيف أن المشاهد يتابعها من البداية للنهاية دون تشويش، هل الأخبار أكثر خطورة من مشاهد العري والقبلات والمايوهات؟
} وتزداد دهشة عندما تعرف أن هناك منظمة عربية تضم عدة دول، مهمتها تأمين الإرسال ما دام ثمنه قد دفع.. فهل التشويش على قناة واحدة يمنع وصول الحقيقة؟
} خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الإذاعات للتأثير على معنويات الأعداء، ولم يكن التلفزيون قد استخدم، كانت الإذاعة عندما تريد أن تنذر أهل منطقة، تذكر عدد الأسلحة والطائرات التي تستعد للمشاركة في الهجوم.
} خلال الحرب الباردة كان هناك صراع إعلامي بين الدول العظمى، وهذا الصراع هو الذي أدى إلى تطوير أجهزة الإعلام المرئي والمسموع، لأن كل طرف يود الانتصار في معركة الدعاية لأفكاره.. بينما يخوض الروس والصينيون هذه الحرب بطريقة مباشرة، نجد أن الأمريكان أكثر ذكاء ولا يشيرون إلى إنجازاتهم ولا إلى انتصاراتهم. وخلال فترات الصراع العربي – العربي عندما انقسم الوطن العربي إلى دول تقدمية ورجعية، كانت الدول التي تسمى تقدمية تسخر من الدول الرجعية، وسمعنا وشاهدنا الكثير من المسلسلات الإذاعية والتلفزيونية التي تسخر من الطرف الآخر، فكانت إذاعة صوت العرب المصرية تقدم مسلسلاً مثل (الشيخ لعبوط)، الذي يذكر قصة ابن سلطان عربي حضته بريطانيا لكي يخلع والده ليجلس هو مكانه، وكلنا فرحنا آنذاك أن المقصود هو الشيخ شخبوط سلطان عمان، الذي حدثت في سلطنته أحداث أدت إلى إزاحة والده عن السلطة، وتسليم الابن لها كوريث إجباري.
} وهناك قصص كثيرة عن عمليات سرية في هذا البلد أو ذاك، تشير إلى نجاح مخابراتها في هزيمة مخابرات العدو. وفي مثل هذا النوع من القصص لا تستخدم الدولة الدعاية المباشرة، لكن الجميع يفهم المغزى.
} وكانت الإذاعة المصرية هي الأبرع في الدعاية، مستغلة الأثير المفتوح دون عوائق، فكانت كل مسلسلاتها وتمثيلياتها تصب في هذا الاتجاه. والغريب أنها لم تكن تستغل صناعة السينما في ذلك، مع أنها الأقوى تأثيراً. وتستطيع الإذاعة المصرية أن تزعم أنها الوحيدة التي تصدت للدعاية الأمريكية، واستطاعت أن تكسب المستمع العربي إلى جانبها. والخبراء يسمون الدعاية المضادة بالإعلام الأسود، وأمريكا استخدمت إذاعة 24 ساعة في أوروبا موجهة لدول الكتلة السوفيتية، وكانت تسميها إذاعة أوروبا الحرة، ويعمل فيها آلاف المراسلين من كل أنحاء العالم، وتستخدم عدة لغات بما فيها العربية. وقد أوقفت أمريكا هذه الإذاعة عندما انتهت الحرب الباردة، لكن أمريكا لم تستطع التأثير في الدول الأوروبية، عندما غزت القوات السوفيتية (تشيكو سلوفاكيا) إبان تولي “دوبشك” للسلطة، وأعادت الحزب الشيوعي للسلطة من جديد، دون أن يلقي أحد بالاً إلى الهجوم الأمريكي المتواصل ونداءاتها من أجل الحرية، وأكثر الأنظمة حاجة إلى الدعاية هي الأنظمة العسكرية خاصة في بداياتها، وتستخدم الأناشيد فنجد أن نظام يوليو في مصر أول من استخدم الإذاعة للدعاية، وكنا في الستينيات نتابع صوت العرب التي كان إرسالها على مدار اليوم، وكان “أحمد سعيد” يستخدم لغة قوية ضد الأنظمة العربية، وكنا نصفق له، واستخدمت الإذاعة اللغة السافرة عند الحديث عن الأنظمة العربية المعارضة، وتأثر السودان بذلك، فكان نظام “عبود” مقلداً للإعلام الناصري في الدعاية لإنجازاته، ولم يكن له أعداء لذا لم يهاجم أي نظام مجاور، بل حرص أن تكون علاقاته طيبة مع كل الأنظمة، لذا لم تكن لغة إذاعته عنيفة، وهي أساساً لم تكن مسموعة خارج السودان.
} الآن نلاحظ أن أمريكا تبرع في استخدام الإعلام المرئي والمسموع دون أن تشير إلى ذلك، ولديها آلاف الإذاعات وقنوات البث الأرضي، واستفادت من تفوقها التكنولوجي، لدرجة أن الناس يصدقون أن التشويش الحالي لقناة الجزيرة صادر من أمريكا، أو على الأقل استفاد من التكنولوجيا الأمريكية، وكما أكدت في بداية هذا المقال أمريكا لا تستخدم أساليب التشويش، لأنها تثق في ديمقراطيتها وتراها النظام المثالي، لكن حلفاءها في المنطقة لن يكونوا بعيدين عن هذا الأمر، فلا شك أن أحد الأنظمة الحليفة لأمريكا، هو الذي يتولى عملية التشويش وهو تحدٍ لاتحاد الإذاعات العربية، وإلا ستفاجأ أن كل الإذاعات معطلة مثل الجزيرة، ولا نستطيع أن نفعل شيئاً. والتحدي مطروح أمام المثقفين العرب، لاتخاذ لغة الصراحة حتى لا تضطر الأنظمة للجوء للتشويش، ولكن رغم كل التشويش، لا زال الناس يسعون وراء قناة الجزيرة، ويقرأون أخبارها المطبوعة في النت، وهكذا يكون التشويش عديم الفائدة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية